في رحلة الاستشفاء التي صحبتني فيها ابنتي سنا إلى براغ، وضعت ضمن برنامجي اللقاء مع آرا خاجادور، الذي اعتدتُ زيارته واللقاء به عند كل رحلة. وهذه الزيارة كانت مميّزة، فعلى طول الطريق إليه مشياً على الأقدام وفي أزقة المدينة القديمة وحاراتها العتيقة كنتُ أحدّث سنا عنه وعن نضال الشيوعيين العراقيين، خصوصاً من الرعيل الأول، وكانت ابنتي تزداد فضولاً كلّما عرفت فصلاً جديداً من فصول حياته، وتساءلت بكل براءة: كيف تسنّى له البقاء في السجن عشر سنوات؟ وأية قدرة عجيبة تلك على تحمّل كل هذا العذاب؟ وإذا كان بإمكانه الحصول على حرّيته مقابل كلمة أو توقيع لإنهاء محكوميته وإطلاق سراحه، كما تقول، فلماذا لم يفعلها؟ وماذا كان ذلك سيؤثر على شيوعيته، وللإنسان في نهاية المطاف طاقة محدودة على التحمّل؟
ثم تساءلت ماذا بقي من أحلامه الآن؟ ألم تتكسّر على رصيف الواقع؟ وكيف ينظر هو إلى الماضي؟ وكيف يرى العالم بعد انهيار جدار برلين وتفكّك الاتحاد السوفييتي؟ فهل أصيب هو الآخر بالخيبة؟ وهل هو نادم؟ وأسألكم أنتم أيضاً هل تشعرون بالندم وقد أفنيتم زهرة شبابكم، ولكن النتيجة كانت أن سارت الأمور عكس ما ناضلتم من أجله؟ أكنتم في أحلام أم أوهام؟ وهل استفقتم وإذا كان الجواب بنعم ، فمتى؟ وبعد كل هذه الرحلة المضنية والإنكسارات : ماذا تريدون؟ ألا زلتم كما كنتم سابقاً أم إن تغييرات جوهرية طرأت عليكم؟ وعند الفشل فعلى الإنسان مراجعة حساباته، ماذا حصل ولماذا؟ وقارنت حالنا وحال من تعرفهم من أصدقائنا، وفي ذلك اختلط نقدها بلومها ومواساتها، فلم أستطع أن أميّز.
وعلى طول الطريق أمطرتني بأسئلة أخرى شائكة، لم يكن بإمكاني الإجابة عنها، منها، أين حزبكم الذي تحدثني عن أمجاده؟ ولماذا يتركُ مناضلاً مثل آرا خاجادور وقد بلغ عمره أكثر من 91 عاماً كما تقول، بلا مُعين وبلا مورد كما أخبرتني؟ وحين سألتني هل البيت الذي يسكن فيه ملكه أم هو مستأجر، فقلت لها حسب معلوماتي، إنه كان بيتاً أعطته الحكومة التشيكية للحزب الشيوعي العراقي في الستينيات لاستخدامه للأغراض الحزبية، ومنذ ذلك التاريخ، وحتى سقوط النظام الاشتراكي، فالبيت ذو الإيجار الرمزي في حينها ظلّ في حوزة الحزب، وبما أن آرا خاجادور كان يسكنه في سنواته الأخيرة، فقد قررت دائرة البلدية تنظيم عقد إيجار معه، وهذا ما حصل، وإن عائلته وأصدقاءه هم من يتولون تسديد إيجار الدار. قالت سنا وهي تنظرني بشزر ولكن بمرارة مصحوبة بسخرية حزينة: أهذا هو الوفاء بعد كل هذه التضحيات؟ وكانت بعض هموم وأحزان، قد سمعتها وتلمّستها من والدتها الشيوعية أيضاً ساهرة القرغولي.
ثم تحوّلت في نقاشها وأسئلتها إلى الشأن العام، فقالت:
تقولون إن العراق وقع في قبضة الإسلاميين، وإن داعش تصول وتجول في البلاد طولاً وعرضاً، وإن تفجيراتها مثل بيض يفقس كل يوم ويتكاثر على نحو غريب، فأين أنتم؟ وماذا كنتم تفعلون طيلة هذه السنوات؟وإلاّ كيف تستلم البلاد مثل هذه القوى، سواء التي ترفع راية الإسلام السياسي أو القوى الإرهابية الظلامية التي لم تترك شأنا إلاّ وتدخّلت فيه بما فيه الحياة الشخصية للناس وتضطهد النساء، وتلاحق المسيحيين والإيزيديين لتقتلهم إن لم يتأسلموا، وتغتصب نساءهم وتأخذهم سبايا.
لم يحدث مثل هذا الأمر في القرن الماضي، فكيف يحدث الآن في القرن الحادي والعشرين؟ وأين قوى التنوير والحداثة والكلام عن العقلانية والعلمانية، وإذا الدين بصورته الداعشية أو الطائفية يحكم الجميع، وكلٌ يجد في بعض جماعاته ملاذاً له، قلت لها تصوري حتى بعض اليساريين أخذوا يتحدثون عن " المرجعية" وفضائلها ودورها في الإصلاح في مداهنة سمجة وتملّق مفضوح.
لم يكن بإمكاني أن أجد تفسيرات مقنعة لبعض حالنا وما وصلنا إليه، وخصوصاً ما صاحب علاقاتنا من قسوة وخشونة وجحود وابتعاد عن القيم التي ناضلنا لتعميمها، وإذا بنا أول من يضحّي بها، وعن أخلاق افترضنا أنها أكثر صميمية بين الرفاق، وإذا بهم أكثر بُعداً عنها من البشر العاديين. وتوقّفتُ عند مسألة في غاية الأهمية، وضعتها على شكل سؤال: كم خرّبت الأنظمة والأفكار الشمولية القيم والمفاهيم والبشر ؟ وكم كان ضحاياها؟ وكم كان ثمن الاحتجاج باهظاً؟ ولنا من تجارب البلدان الاشتراكية السابقة، وما أطلقنا عليه التحرّر الوطني أمثلة صارخة وحيّة على بعض الممارسات الشائنة، لاسيّما إزاء الرأي الآخر، وكما يقول سعدي يوسف " آه كم كان يرهقني احتجاجي"؟.
وتوقّفنا قليلاً لنتطلّع إلى الأعلى، ونشاهد الأبنية الجميلة التي تعود إلى قرون من الزمان والتماثيل الخالدة، وكلّها تشير إلى عظمة الإنسان، باني هذه المدينة، فبعقل الشغيلة وبسواعدهم، أشيدت براغ على أيدي ملوك بوهيميا، وعرفت الازدهار خلال القرن الرابع عشر على يد الملك جارلس الرابع، الذي بنى البلدة الجديدة وأشهر جسر في براغ جسر جارلس وأقدم جامعة في أوروبا الوسطى جامعة جارلس وكاتدرائية القديس فيتوس وهي من أكثر الكاتدرائيات القوطية قِدماً في أوروبا الوسطى. 
وتكوّنت براغ التي نعرفها سنة 1748، من خلال دمج أربع مدن صغيرة: البلدة القديمة والبلدة الجديدة وحي القلعة ومالاسترانا (الساحة الصغيرة)، وقد تم اعلانها، بعد الحرب العالمية الاولى عام 1918، عاصمة دولة تشيكوسلوفاكيا، لتصبح عام 1993 عاصمة لجمهورية تشيكيا بعد انفصال سلوفاكيا عنها. وتعتبر براغ المدينة الذهبية حيث ترتفع فوق قصورها وكنائسها أبراج مغطّاة بالذهب تصل إلى المئة. لم أستطع وأنا استغرق في مشاهدتي إلاّ استعادة ذاكرتي في براغ للساحة الصغيرة وجسر جارلس وحارة اليهود، لأنعطف قليلاً باتجاه نهر الفلتافا وكلية الحقوق، متّجهاً إلى الساحة القديمة والساعة التاريخية ونصب المصلح يان هوس، ومنها في الأزقة الضيقة المتفرّعة، وصولاً إلى منزل آرا خاجادور.
في تلك اللحظة كانت تنتصب أمامي مدينتي العتيدة (بغداد – النجف) وهما واحدة عندي وتكمّل إحداهما الأخرى في هارموني عجيب، وكم حزنتُ حين بدأت تدور المقارنات في ذهني لتعصف بها ريح عاتية، لم أستطع التخلّص منها: هنا كيف يحافظون على شكل مدينتهم بعمرانها القديم ومتاحفها ومسارحها وتماثيلها وشوارعها ويعيدون ترميم ما تآكل منها أو تصدّع، في حين نرى معاول التجريف والهدم تفعل فعلها في مدينتا، خصوصاً بصعود النزعة البدوية – القروية المتخلّفة التي حاولت مسح آثارنا، بما فيها ذاكرتنا، وتشويه معالمها وتجريدها من عبق التاريخ ونكهته.
استعدتُ مذكرات عديدة كان قد أطلعني عليها البروفسور حيدر عبد الرزاق كمونه، وهو من أبرز العلماء المختصين بهندسة المدن وخريج لينينغراد " بطرسبرغ"، وكان قد وجهها سابقاً إلى رئاسة الجمهورية ، ولاحقاً إلى السيد علي السيستاني رجل الدين المتنفّذ في النجف، بخصوص المحافظة على ما تبقّى من معالم النجف الأثرية ووقف هدمها والعبث بذاكرة المدينة، لكنه لا في المرّة الأولى (خلال العهد السابق) ولا بعد الاحتلال، أخذت مقترحاته بنظر الاعتبار أو استمعت تحذيراته المتكرّرة.
وراحت المدينة (النجف وبغداد) وتاريخها وعمارتها تغوص في الأرض، ليحلّ الركام محلها، بزعم إنشاء أبنية حديثة وعصرية، لكنها لا تمّت إلى الحداثة بصلة، بل كانت تشويهاً للذوق وللفن والجمال والعمران لدرجة مريعة.
فالنجف التي كانت مركزاً للأديرة المسيحية في مملكة الحيرة وعاصمة الخلافة الإسلامية فيما بعد في عهد خلافة الإمام علي بن أبي طالب وتكنّى بخدّ العذراء والمشهد والغري وغيرها من التسميات، تعرّضت خلال العقود الماضية، ولاسيّما بعد الاحتلال لمحاولات لتشويه معالمها وهدم أبنيتها الأثرية، وذلك بسبب جهل القائمين عليها وعلى السياسة العامة بأهمية ذلك أو لأغراض ومصالح خاصة. أما بغداد فقد بُنيت في العصر العباسي على يد " أبو جعفر المنصور" وأخذت اسم الزوراء ومدينة السلام، وكانت عاصمة الدولة الإسلامية، بل عاصمة العالم، حيث تتطلّع إليها الأنظار، لجمالها وعمرانها وعلومها وآدابها وفنونها وانفتاحها، ولكن هذه المدينة هي الأخرى تعرضت للتشويه وتغيير المعالم في العهود السابقة، ولاسيّما للإهمال بسبب الحروب والحصار، وبعد الاحتلال لتقطيع أوصالها وتقسيمها إلى مناطق نفوذ.
وبعد أن انصرف كل منّا إلى تفكيره قالت لي سنا وكأنها كانت تقرأ أفكاري: متى نزور متحف الشيوعية؟ وكان لديها المعلومات التفصيلية عنه وعنوانه، فقلتُ لها غداً، وكنت أنا نفسي حريص على زيارته. والمتحف الذي تصدّرت التعريف به صورة ستالين يحمل عنواناً مثيراً هو: الحلم، الواقع، الكابوس. وقد افتتح بعد انهيار النظام الاشتراكي بعدّة سنوات وفي قلب العاصمة التشيكية بالقرب من منطقة الموستيك الشهيرة، ووجدت خلال زيارته عدداً من المفارقات منها حشود السياح الذين يحرصون على زيارته، علماً بأن العدد الأكبر من الزائرين من أهل البلد أو من الأجانب كان من الشابات والشباب، واسترقت السمع إلى حوارات مثيرة بينهم، ومنهم من حمل كتب كافكا كما كانت تفعل ابنتي سنا، ومنهم من ارتدى فانيلة جيفارا، وشاهدت واحداً منهم يعلّق على صدره صورة ستالين، في حين يزمّ عجوز شفتيه تبرماً، ولا أدري إن كان من الحاضر، أم نستولوجيا للماضي؟
فاجأتني سنا حين قالت لي لماذا لم ترغب أو تفضّل أن تنتمي سوسن ابنتي الكبرى إلى الحزب الشيوعي حين فاتحتك؟، ألم تكن وماما شيوعيين، قلت لها كلاّ لم أكن ممانعاً لكن فكرتها عن الشيوعية كانت هلامية، وقد طلبت منها أن تقرأ الماركسية وتتعمّق فيها، ومن ثم تختار بعد ذلك، لأننا دخلنا الحزب الشيوعي قبل قراءة الماركسية، وتغيّرت نظرتنا عندما حاولنا دراستها بعد سنوات، وها آنذا انتقلت من الإيمانية التبشيرية إلى التساؤلية العقلانية، ومنها إلى النقد في إطار المنهج الجدلي الذي كان لماركس الفضل في بلورته، ومثّل الحلقة الذهبية الأولى في الماركسية، لكن تعاليمه تصلح له وعلينا استنباط التعاليم والأحكام المناسبة لعصرنا في ضوء المنهج الجدلي والمناهج والفلسفات الأخرى، بل الاستفادة منها وتوظيفها في إطار المنهج الماركسي النقدي الوضعي.
في الحرب على غزة العام 2008-2009 تحمّست سوسن كثيراً، وقرأت البيان الشيوعي وكتابات جيفارا وارتدت قبعته ونقشت صورته على قميصها، كما قرأت كتباً أخرى عن الكفاح المسلح، وسألتني عن تجربتنا في حركة الأنصار الشيوعية، وعن دور المرأة، وكانت قد ساعدتني في كتابة ملخّص بالانكليزية عن كتابي " كوبا – الحلم الغامض"، وقرّرت التطوّع في أسطول الحرية. لم يبلغ عمرها الثامنة عشر آنذاك، قلت لها وأنا أقدر اندفاعات الشباب أكملي امتحانك ثم قرّري. ثم جاءت الأخبار بتصدّي القوات الإسرائيلية لأسطول الحرية في المياه الإقليمية الفلسطينية ، وسقوط تسعة شهداء من الأتراك وعدد من الجرحى، وجاءتني حائرة ومتسائلة، وخاطبتني كيف وافقت على سفري؟ انظر ما حصل للمتطوّعين في الخدمة الإنسانية ولكسر الحصار ، ألست تحبّني وكيف لا تخاف عليّ؟ ألم يكن بالإمكان عدم تشجيعي ولو قدّر لي أن ذهبت فأنا الآن في عداد الموتى؟
قلت لها أنت راشدة وأنت من يختار وأنا أحبّك جداً، ولكنني أحبّك أكثر حينما تكونين شجاعة، وكنت قد قدّرت تطوّعك للدفاع عن فلسطين. وفي عمرك أنا الآخر تطوّعت في المقاومة الفلسطينية بعد عدوان يونيو/حزيران العام 1967، وهكذا وجدت نفسي فيك عندما سمعت أنك تتطوّعين لنصرة أهل غزة، ولا تتصوّري كم كانت فرحتي كبيرة، فظروفنا غير ظروفكم، ولهذا عندما عرفت مدى تعلّقك بغزة وفلسطين ومقاطعتك شراء بضائع من محلات ماركس آند سبنسر Marks & Spencer الداعمة لإسرائيل ، كم شعرت بالغبطة بأن الإنسان مهما كانت ظروفه فإنه يستطيع أن يتحسّس مأساة المظلومين والمعذّبين وأن ينتصر لقيم الحرية والحق والعدل والجمال والعمران وهي قيم إنسانية، يسمو بها البشر على غيرهم من المخلوقات.
II
دخلنا منزل آرا خاجادور وقد اصطحبنا صديقنا الدكتور عصام الحافظ الزند إليه بعد تلك الفسحة الممتعة والمزدحمة بالأسئلة، ووجدنا رفيقه الصديق حميد برتو قد سبقنا إليه حسب الاتفاق. وبصمت أقرب إلى الخشوع كانت سنا تنظر إلى آرا وتصغي إلى حديثه مأخوذة بالدهشة، ذلك أنها تلتقي مناضلاً ينتمي التاريخ إليه، كما عبّرت عن ذلك بعد خروجنا من المنزل، لا هو ينتمي إلى التاريخ. وفي الوقت نفسه كانت تختزن أسئلة ستواجهني بها بعد زيارتنا لمتحف الشيوعية.
ولكي تداري حرجها ولأقلْ خجلها، كانت تلتجئ إلى كاميرتها الصغيرة أو تلفونها لتلتقط لنا صوراً، يمكن تسميتها " تاريخية"، وانتبه إلى ذلك آرا " أبا طارق" ، فقام من كرسيه وإن كان بصعوبة ليفتح خزانة صغيرة وليجلب لها قطعة شوكولاته، ثم أعاد الكرّة وجلب قطعة ثانية وقال إنها لسوسن، وأعتقد أن آرا لاحظ ارتباك سنا ونظراتها المتميّزة له وإصغائها إليه. وكم كانت سنا حزينة لأنها نسيت "حبتي" الشوكولاته، بسبب من تركيزها على التاريخ ومحاولاتها أن تفهم ما يقال. ووعدتها عند عودتنا من المصح سوف نمرّ على "أبي طارق" وسوف لا ننسى الشوكولاته، وهو ما حصل فعلاً.
ولكن من هو آرا خاجادور؟ يمكنني القول إنه أحد أعمدة الحزب العشرة في سنوات الستينيات، ولاسيّما بعد انقلاب 8 شباط (فبراير) 1963، وهؤلاء هم: عزيز محمد وزكي خيري وباقر ابراهيم وكريم أحمد وثابت حبيب العاني وعامر عبدالله وبهاء الدين نوري وعمر علي الشيخ وعزيز الحاج . ومهما كان موقعه، فقد كان له دوراً كبيراً في بعض توجّهات الحزب أواسط الستينيات، وخصوصاً ما عُرف بفكرة العمل الحاسم وخط حسين "هاشم" والتنظيم العسكري والخط الخاص وأمن الحزب والعلاقة الخاصة والمتميّزة بالتشيك، والعلاقة بالسوفييت، إضافة إلى علاقته بقوات الأنصار الشيوعية (العربية)، حيث كان واحداً من قادتها مع ثابت حبيب العاني وضمت الأحزاب الشيوعية الأربعة: العراقي والأردني والسوري واللبناني، على الرغم من أنها فعلياً لم تر النور باستثناء الإعلان وبعض التحضيرات الأولية، وكان في أواسط الثمانينيات، وبعد المؤتمر الرابع الذي أثار انتقادات شديدة، أصبح آرا عضواً في المكتب السياسي ومسؤولاً عن قوات الأنصار الشيوعية "البيشمركة".
وبعد كل ذلك فآرا خاجادور هو العامل النقابي الأبرز ضمن إدارة الحزب، التي ظلّت تشكو من نقص الملاكات العمالية، وقد شغل آرا خاجادور مواقع قيادية في اتحاد العمال، بعد ثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958وذلك بعد خروجه من السجن، بل السجون التي تنقّل فيها، من سجن بعقوبة إلى نقرة السلمان وسجن الكوت وسجن بغداد وغيرها . وقد أصبح رئيساً لنقابة النفط، وهي النقابة الأكبر في إطار المشاريع الصناعية الكبيرة التي كان الحزب الشيوعي يوليها اهتماماً خاصاً، وهو الأمين العام في الاتحاد العام لنقابات العمال، إضافة إلى صادق جعفر الفلاحي وعلي شكر وآخرين، وهي أسماء كان لها وزنها وثقلها وتاريخها النقابي والسياسي. وقد مثّل اتحاد نقابات العمال في العراق باتحاد نقابات العمّال العالمي في أوائل الستينيات وشغل مواقع قيادية في هذا الاتحاد، كما مثل الحزب الشيوعي في مطلع السبعينيات في مجلة قضايا السلم والإشتراكية (وهي المجلة النظرية للأحزاب الشيوعية والعمالية) التي كانت تصدر من براغ..
لقد تسنّى لي قراءة موسوعة التحقيقات الجنائية التي صدرت العام 1950-1951، وكنت قد استعرتها من الطيب الذكر حسين جميل في أواخر الستينيات كما ذكرت في أكثر من مرّة، حيث كان مدير التحقيقات الجنائية بهجت العطية، ودوّنت الموسوعة إفادات وتحقيقات الطاقم القيادي الشيوعي الذي اعتقل بُعيد اعتقال الرفيق فهد (يوسف سلمان يوسف) ورفيقيه حسين محمد الشبيبي (صارم) ومحمد زكي بسيم (حازم) ، وارتفعت موجة الاعتقالات بعد اعدامهم ومعهم يهودا صدّيق يوم 13-14 شباط (فبراير) العام 1949 وتبعهم إعدام ساسون دلال الذي تولّى المسؤولية بعد خيانة مالك سيف. وكم كان إعجابي شديداً، حين اكتشفت فرعاً أرمنياً للحزب وكان الشاب آرا خاجادور قد تولّى قيادته، إضافة إلى موقفه، سواء في التحقيق أو في المحكمة أو في السجن كما عرفت فيما بعد، وحتى حادث اعتقاله في العام 1967 كان مصدر اعجابنا حين هتف في الشارع " يا ناس كولوا للحزب آرا انلزم" وهو دليل على الانتماء للناس وإيمانه وثقته بأنهم سياج الحزب.
III
وبالعودة إلى فترة الأربعينيات يمكن القول إن الحزب الشيوعي انتقل من الشارع إلى السجن، خصوصاً وإن الغالبية الساحقة من إداراته وملاكاته الأساسية، أصبحت رهن الاعتقال أو السجن وحكم على عدد كبير منهم بأحكام غليظة، بينهم آرا خاجادور، وكم كانت تلك فترة عصيبة؟ خصوصاً وقد تركت تأثيراتها على سياسة الحزب التي أخذت بالتخبّط، سواءً فيما يتعلّق بالأوضاع الداخلية، تلك التي لم تستقر إلاّ في عهد قيادة سلام عادل، ولاسيّما قبيل وبعد الكونفرنس الثاني العام 1956، أو فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية التي كانت معالجتنا لها بعد غياب قيادة الرفيق فهد، قاصرة عن استيعاب المنهج الجدلي، وتطبيقاته العملية، ناهيك عن الضغوط التي تعرّض لها الحزب، وقياداته وملاكاته الشابّة من المركز الأممي، خصوصاً في ظل شحّ الثقافة الماركسية ونقص التجربة والخبرة.
ولكن تلك المواقف التي تم اتخاذها باسم الحزب في فترة أقرب إلى انعدام الوزن، وفي ظل تعاقب قيادات غير مؤهلة، ظلّت تلاحق الحزب مثل ظلّه، وعلى الرغم من مراجعة أولية جاء عليها هامشاً في الكونفرنس الثاني (وسبق أن عرضتها في كتابي عن عامر عبدالله: النار ومرارة الأمل)، إلاّ أن التوجّه العام لم يُجرِ تقييماً وظلّ الموقف عائماً وتبريرياً، في حين يحتاج إلى مراجعة، خصوصاً بنقد الموقف السوفييتي، وبالتالي إعادة النظر بموقفنا الذي خسرنا بسببه الكثير، وحتى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، فإننا لم نُقدم على عمل نقدي من هذا النوع، بل إن كل نقد كان يصدر، سواء من جانب بعضنا أو من خارجنا، نعتبره نقداً متحاملاً أو تشويهاً أو اصطياداً بالماء العكر، وهو يعبّر عن موقف قومي شوفيني، مكتفين باتهامات جاهزة، ولكن دون مناقشة الموقف الفعلي وسياستنا تلك.
ولا بدّ لي هنا من الاعتراف بأن حزب القيادة المركزية الذي تأسس بانشطار الحزب العام 1967، أجرى مراجعة موضوعية ونقداً رصيناً لموقفنا من القضية الفلسطينية، وهو ما تبلور لاحقاً في ظل قيادة ابراهيم علاوي، بإصدار كرّاس في مطلع السبعينيات بعنوان "الحزب الشيوعي والمسألة الفلسطينية – سلسلة دراسات ثورية".
وكانت حكومات العهد الملكي قد استشعرت خطر الشيوعية والحزب الشيوعي، الذي كان يحرّك الجماهير بشعاراته وتظاهراته وعلاقاته بالناس وتعبيره عن تطلعاتهم، إضافة إلى القوى الأخرى، فاستغلّت القضية الفلسطينية وفيما بعد الحرب العربية – الإسرائيلية، وحنق القوى القومية على موقف الحزب الشيوعي المرتبك والملتبس، ولاسيّما بعد تأييد الاتحاد السوفييتي قرار تقسيم فلسطين وإقامة دولتين، ومن ثم الاعتراف بإسرائيل عند قيامها في أيار (مايو) العام 1948، فشنّت هجوماً كاسحاً عليه وعلى التنظيمات الشيوعية والماركسية الأخرى، ثم قرّرت بإيحاء من بريطانيا إعدام قادته فهد وحازم وصارم ويهودا صديق وساسون دلاّل، وإيداع القسم الأكبر من قياداته وملاكاته في السجن، لأنها كانت تعرف إن المحرّك الأساسي لرفض اتفاقية بورتسموث المذلّة والمجحفة هو الحزب الشيوعي، تلك الاتفاقية التي وقعها رئيس الوزراء صالح جبر وأرنست بيفن وزير خارجية بريطانيا.
III
لم يكن تاريخنا الحالي مفصولاً عن تاريخها الماضي، فمن وحيه نستلهم العِبَر والدروس، فالموقف من الاحتلال ومن الاتفاقية العراقية- الأمريكية، إضافة إلى الموقف من القضايا الوطنية والقومية والاجتماعية، ودور الحزب وسياسيته إزاء آمال الناس وتطلعاتها، وقبل ذلك الموقف من الحرب العراقية – الإيرانية والتحالفات وأساليب الكفاح، تباينت بشأنها المواقف، وانقسم الحزب بخصوصها، وارتفعت العديد من الأصوات من داخله التي تدعو "إدارته" لعدم التفريط بهوّيته الوطنية أو المساس بها، وهي التي منحته موقعه المتميّز لدى الناس.
ومن القياديين الذين سلكوا سبيل النقد آرا خاجادور الذي أصدر في العام الماضي كتاباً ضمّه خلاصات لانتقاده ومواقفه وتمايزاته عن إدارة الحزب. وحمل هذا الكتاب عنوان: "نبض السنين"، مثلما فعل العديد من القيادات الشيوعية والمثقفين الشيوعيين والماركسيين، خلال العقود الثلاثة ونصف الماضية حين عبّروا عن مواقفهم، سواء برفض المشروع الحربي والسياسي الإيراني والبديل الذي كان يدعو إليه أو التنبّيه لمخاطر التوجّهات القومية الضيقة ونزعات التبعية للقوى الكردية مع مناصرة قضايا الشعب الكردي، ولاسيّما حقه في تقرير المصير، ونقدهم لأساليب الكفاح والتحالفات، إضافة إلى نقد النهج التفريطي، الذي توِّج في المؤتمر الرابع، إضافة إلى الموقف من الاحتلال والدستور ونظام المحاصصة والاتفاقية العراقية – الأمريكية وغيرها.
وبالعودة إلى الموقف من القضية الفلسطينية فيمكن القول إن سلطات العهد الملكي ومن ورائها بريطانيا استغلّت نقطة الضعف بخصوص القضية الفلسطينية تلك، لتصفّي الحساب مع الحزب الشيوعي، الذي كان هو وعموم الحركة الشيوعية، يتّخذ موقفاً سليماً من القضية الفلسطينية، قبل تأييد الاتحاد السوفييتي لقرار التقسيم، وهو الأمر الذي أحرجه كثيراً لاحقاً، بل إلى الآن، خصوصاً وإن تراجعه لم يكن منظّماً أو مقنعاً، وإنما كان تبريرياً وذرائعياً، ومحاولة منه لتكييف موقفه مع الاتحاد السوفييتي، في حين إن موقفه قبل هذا التاريخ كان يعبّر عن ضمير الأمة العربية وطموحاتها وآمالها بمن فيها الشعب الفلسطيني، حيث كانت دعوته صريحة لإنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين ورفض قرار التقسيم وأية فكرة تحول دون استقلالها وتحرّرها ووحدتها في إطار نظام ديمقراطي يتعايش فيه الجميع من العرب (مسلمون ومسيحيون) ومن اليهود.
وتدفّق آرا خاجادور يروي بشغف ومتعة بعض ذكرياته، وطلب من حميد برتو أن يدوّن إجاباته على بعض الأسئلة والمحاورات وإنْ لم تتّخذ منحىً مبرمجاً، بل كانت فيها انتقالات سريعة، لكنها مهمة، وحتى قبل أن يبدأ طلبه، أخرج برتو قلمه من جيبه وسحب كرسيه، ليكون قريباً من الطاولة التي يكتب عليها وتناول بضعة أوراق، وبدأ آرا الحديث، وسنا في رحلة ممتعة مع التاريخ، وما لم تفهمه عُدت بعد ذلك لأشرحه لها وأقرّبه منها لتستوعبه، فقد كان بعضه عسيراً على هضمها.
وقبل أن أتوقّف عند النقاط التي فتحت الشهية للحوار، وخصوصاً تظاهرة 1 أيار/مايو العام 1959، وموقف الحزب والعلاقة مع الزعيم عبد الكريم قاسم والموقف من الحكم، وهل كان لدى الحزب خطة لاستلام السلطة وإزاحة قاسم وخطة العمل الحاسم؟ أعود لإجلاء الصورة المشوشة والمغرضة أحياناً من القضية الفلسطينية ومن قرار التقسيم. وبالطبع فقد كان هناك موقفان، أحدهما صحيح، وهو موقف الرفيق فهد قبل اعتقاله وهو الرافض لقرار التقسيم، والآخر ملتبس، وهو الذي استشكل فيه الأمر على الشيوعيين، بل وحتى على الرفيق فهد لوصول وثيقة بعنوان "أضواء على القضية الفلسطينية" تؤيد قرار التقسيم وتتبنّى موقف الاتحاد السوفييتي، بحماسة الحزب الشيوعي الفرنسي لها، وهو الأمر الذي لم تتم مراجعته على الصعيد الفكري ونقده، حتى الآن.
وكنتُ في وقت سابق قد سألت آرا خاجادور عن موقف عصبة مكافحة الصهيونية، فقال لي إن موقفها ضد مشروع تقسيم فلسطين، وأكّد ذلك عادل مصري (يعقوب بن مير مصري) سكرتير العصبة، وكنت قد اطّلعت في حينها على كتاب مهم للدكتور عبد اللطيف الراوي، الصادر عن دار وهران والموسوم " عصبة مكافحة الصهيونية في العراق- وثائق" صدر في أواسط الثمانينيات وبالفعل فقد جاء في الوثائق : "إن الأخذ بمشروع تقسيم فلسطين إلى أربع مناطق، معناه بالنسبة للعرب، تنازلهم عن حقهم الطبيعي في ثلاث مناطق تؤلف الجزء الأكبر من القطر الفلسطيني، معناه الاعتراف بوجود دولة صهيونية في إحدى هذه المناطق لها حق قبول المهاجرين وتأليف جيش وإنشاء قواعد حربية وما أشبه، دولة يهود خطر على القطر الفلسطيني والبلاد العربية بأسرها".
وإذا أردنا الوقوف عند هذا النص الاستشرافي وتحليله، سنرى إن الحزب ومنظماته كان سبّاقاً إلى تلمّس الخطر الحقيقي على الأمة العربية من جانب الصهيونية، الأمر الذي يعني إن الموقف اللاحق بعد بضعة أسابيع أو أشهر بتأييد قرار التقسيم، ليس سوى انقلاباً على ذلك الموقف المبدأي الاستقلالي الاجتهادي ، والتحوّل إلى نقيضه، الموقف الذرائعي، التابع والمتلقي للأوامر. ولم يكن ذلك سوى خدمة لمصالح الدولة العظمى والمقصود بها الاتحاد السوفييتي الذي استدار بموقفه 180 درجة في إطار المساومات الدولية التي افتتحها مؤتمر يالطا العام 1943 وما بعده. 
وكم كان وقع خطاب غروميكو ممثل الاتحاد السوفييتي في الأمم المتحدة ثم وزير خارجيته لاحقاً (1957-1985 ) في الأمم المتحدة قاسياً وثقيلاً على العرب حين أخذ يبرّر اقتطاع الجزء الأكبر من فلسطين ليُمنح إلى مهاجرين يتجمّعون فيه من أقاصي الدنيا، فقد صوّت بصفته مندوب الاتحاد السوفييتي في مجلس الأمن على قرار التقسيم في العام 1947 ولاحقاً تأييد قيام دولة إسرائيل في العام 1948.
وكان على الأحزاب الشيوعية أن تحذو حذّوه وأن تتبّع خطواته، بل إن بعضها بالغ في إيجاد التفسيرات والذرائع باستثناء الحزب الشيوعي السوداني الذي ظلّ موقفه متحفّظاً، وحتى بعد انقضاء ما يقارب 70 عاماً فلا زال هذا البعض يلقي باللائمة على الخصوم، ويذهب أكثر من ذلك حين يعتبر موقفنا صحيحاً، مبرّراً تراجع الوضع العربي ونكوصه، وقبوله بأدنى من قرار التقسيم، وينسى أصحاب مثل هذا الاتجاه إنه لا من حيث التنظير الماركسي ولا السياسي أو العملاني ، يمكن تبرير قيام دولة إسرائيل، ناهيك عن مسألة الحق، فضلاً عن عدم شرعية تقسيم بلد بقرار دولي.
والمسألة لم تجري في ظل الحديث عن تكتيكات تتعلق بتوازن القوى، وتراجعات تعقبها على هذا الأساس، بل إن الحديث عن حق اليهود في تقرير مصيرهم وإقامة دولتهم طغى على حق الشعب العربي الفلسطيني في بعض الأحيان، وشمل حقولاً أخرى، بتبرير تقدمية دولة إسرائيل، مقارنة بالبلدان العربية المتخلفة والرجعية، بزعم وجود حزب شيوعي علني ونقابات وغير ذلك من التبريرات السمجة والسطحية، متناسين إن قيام إسرائيل هو تجاوز على حقوق شعب فلسطين التاريخية وغير القابلة للتصرّف، ناهيك عن كونها مخفراً أمامياً للامبريالية ومصالحها في المنطقة، وضد حركة التحرّر الوطني العربية والاتجاهات والتيارات الماركسية، إضافة إلى أنها ضد الاتحاد السوفييتي، وكنت قد عالجت ذلك بالتفصيل في كتابي " تحطيم المرايا – في الماركسية والاختلاف".
وكانت الحكومة الرجعية في العراق قد أعلنت الأحكام العرفية بحجة " حماية مؤخّرة الجيش" ووجّهت ضربات للحزب الشيوعي ولأطراف وطنية أخرى، واستغلّت تلك الظروف لمحاكمة فهد قائد الحزب ورفاقه القياديين.
وحتى عندما طرح مشروع قرار التقسيم في تشرين الأول (اكتوبر) العام 1947، لم يلتزم به الحزب الشيوعي العراقي في البداية بالرغم من تصويت الاتحاد السوفييتي، وظلّ يتمسك برفض فكرة تقسيم فلسطين، وحمل بشدّة على القرار بعد إقراره في الجمعية العامة للأمم المتحدة في التاسع عشر من شهر تشرين الثاني (نوفمبر)1947، وذلك كما كتبته جريدة القاعدة جريدة الحزب السرّية معتبرة: إن مشروع تقسيم فلسطين اعتداءٌ على الشعب الفلسطيني وحرمانه من حقه في تقرير مصيره بنفسه... وهو ثمرة للمجهود الاستعماري البريطاني لمدّة 30 عاماً، بإعطاء الصهاينة وعد بلفور المشؤوم وتشجيع الهجرة... ودعا الحزب شعبنا المجاهد (عرباً وأكراداً) والشعوب العربية إلى النضال ضد التقسيم لإحباطه، بل نظّم تظاهرة ضده في بغداد ومحافظات عديدة (الألوية العراقية حسب التقسيم الإداري القديم) لاستنكاره والمناداة بسقوط الاستعمار الانكلو – أمريكي وربيبته الصهيونية والمطالبة بتحرير فلسطين وإقامة دولة ديمقراطية مستقلّة حرّة فيها .
قد لا يعرف كثيرون إن موقف الحزب الشيوعي العراقي من قرار التقسيم كان رافضاً ومناقضاً في بداية الأمر، ولو كان قد استمر عليه لكسب أوساطاً واسعة ولأصبح هو والأحزاب الشيوعية الأخرى محور الحركة الوطنية، لما يمثّلونه من حداثة وعقلانية وعلمانية وتنوير، ودعوات للتحرّر الوطني والاجتماعي والدفاع عن مصالح الفقراء والكادحين. 
كما لا يعرف كثيرون أيضاً أن هذا الموقف الرافض لقرار التقسيم لم يكن مصدر ارتياح من الحركة الشيوعية، وخصوصاً من جانب الحزب الشيوعي الفرنسي، الذي سبق وأن توقّفتُ عند مواقفه الشوفينية من استقلال الجزائر، وكان من أكثر الأحزاب ترحيباً بقيام دولة إسرائيل وتصدّرت الصفحة الأولى لجريدته اللومانتيه تهنئة للعالم بتأسيس الدولة العبرية. وقد مارست الحركة الشيوعية والحزب الشيوعي الفرنسي، ضغوطاً مختلفة لتغيير موقف الحزب الشيوعي العراقي.
وكانت تلك الضغوط " الأممية" تستهدف التطابق مع الموقف السوفييتي، أي الانقلاب على الموقف الصحيح، وتمثّلت تلك الضغوط المباشرة وغير المباشرة بإرسال الكونفورم "المنظمة الشيوعية الأممية بعد حلّ الكومنترن العام 1943" رسولاً له إلى بغداد أو ممارسة ضغوط من الحزب الشيوعي الفرنسي على عدد من الشيوعيين العراقيين لإقناعهم بإصدار وثيقة تأخذ موقفاً مؤيداً للتقسيم، وهو ما حصل بالفعل، وقد انتقلت الوثيقة إلى بغداد ، ولاقت مثل هذه الرغبة تجاوباً إيجابياً مع بعض كوادر الحزب، لاسيّما من بعض اليهود، في ظلّ غياب قيادة الرفيق فهد التي كانت في السجن.
وكان إصدار لفيف من الشيوعيين العراقيين الذين كانوا يدرسون في فرنسا كرّاساً بعنوان " أضواء على القضية الفلسطينية" وهو بتحريض من الحزب الشيوعي الفرنسي، أول بادرة للتراجع عن الموقف المبدأي. وحمل هذا الكراس إلى العراق يوسف اسماعيل، وتم توزيعه على نطاق واسع باعتباره يمثّل الحزب، كما زار د. راناجت كوها عضو قيادة الحزب الشيوعي الهندي بغداد مبعوثاً من الكونفورم لحمل الحزب على تغيير موقفه، كما يقول شريف الشيخ في رسالة خاصة إلى الحزب.
وباستعادة ذلك وبالتدقيق مع آرا خاجادور، فإن التثقيف حول هذه المسألة لم يكن يسير في البداية على نهج واضح، فبعد أن اطّلع فهد على كرّاس " أضواء على القضية الفلسطينية ردّ في رسالة له مؤكداً " ليس كل ما فيه ينسجم مع نظرتنا إلى القضية الفلسطينية... وفيه معلومات خاطئة واستنتاجات غير صحيحة"، كما ورد في كتاب مالك سيف "للتاريخ لسان".
ورفض فهد فكرة "القومية اليهودية" وهو ما سبق أن فنّده لينين، كما نصح في رسالة لمالك سيف (المسؤول الأول حينها خارج السجن) الاتصال بقيادات الأحزاب الشيوعية في سوريا ولبنان لاستطلاع الرأي وتعيين الموقف.
وكان آرا خاجادور قد التقى فهد مرتين الأولى في مكتبة دار الحكمة (التي كانت مدعومة من الحزب الشيوعي) في منطقة الشورجة ببغداد، وذلك حين دعاه زكي بسيم عضو المكتب السياسي في حينها مع قيادة الفرع الأرمني للحزب. والثانية- حين دعاه كريكور بدروسيان إلى شقته في كمب الأرمن وحضر حينها فهد في تلك الأمسية. لم تستطع سنا أن تستوعب أن آرا قضى سبعة عقود من عمره في قيادة الحزب الشيوعي، فسألتني هل ولِدَ قائداً من بطن أمّه؟ قلت لها كلاّ كان شاباً قليل الخبرة حين اختير لقيادة الفرع الأرمني، والحزب آنذاك كان شاباً هو الآخر، وكل من فيه من الشباب، وأكبرهم سناً كان فهد، المولود في العام 1901 وحين أعدم في العام 1949 كان عمره لم يتجاوز الـ48 عاماً . أما سلام عادل فقد تولّى القيادة ولم يتجاوز عمره الثلاثين عاماً، وحين استشهد العام 1963 كان عمره 38 عاماً.
وبما أن التوجّه كان حين ذاك لاختيار عناصر عمّالية، فقد كان مثل هذا الاختيار قد وقع بجدارة على حسن الاختيار في مواقفه عند اعتقاله وسجنه، وهكذا عندما خرج من السجن كان عمره أصبح 34 عاماً، واكتسب خبرة غير قليلة، في سجنه الصحراوي الذي كان يسمّى مدرسة المناضلين، وبعضهم من تعلّم فيه حقيقة، ودرس الاقتصاد واللغات والعلوم، بل كان فيه صفاً لمحو الأمية أيضاً.
قالت سنا عجيبون أنتم الشيوعيون العراقيون... كلّ هذا فعلتموه ولكنكم الآن على الهامش بعد أن كنتم تقودون المسيرات المليونية. قلت لها وذلك بعض مفارقاتنا، فحين حدث انقلاب 8 شباط (فبراير) العام 1963 كتبت إحدى الصحف اللبنانية حينها، إن الحزب الشيوعي الذي لم يستطع الفوز بالسلطة، لكنه استطاع أن يحقق ثورة في الخارج، فلديه (حينذاك) نحو ثلاثة آلاف طالب يدرسون في الدول الاشتراكية، وهو رقم كبير حينذاك.
ليس هذا فحسب، بل إن كل ما يتعلق بالحداثة والتنوير والعقلانية والمدنية وحقوق العمال والمرأة والمجتمع المدني ونقابات العمال واتحادات الفلاحين ومنظمات السلم والشباب والطلبة والمرأة، جاءت من البوابة الشيوعية في العراق ومعها الحركة الديمقراطية والليبرالية المعاصرة، لا في السياسة فحسب، بل في الأدب والفن والمسرح والسينما والشعر والرسم والنحت والموسيقى والعمران والجمال.
حقاً إنها مفارقة حين نكون بهذا الوضع، وإذا كان ثمة أسباب موضوعية بتراجع اليسار عموماً على المستوى العالمي، فثمة أسباب ذاتية، منها أخطاءنا ومحدوديتنا وممارساتنا ونهج الإقصاء الذي اتبعناه ضد بعضنا البعض.
VI
سألت آرا من يقف وراء رفع شعار " الحزب الشيوعي بالحكم " في تظاهرة الأول من أيار (مايو) العام 1959. قال لم يكن مُتّفقاً عليه على الإطلاق، ولكنه كان فعلياً موجوداً في الشارع، وخصوصاً بعد القضاء على حركة الشوّاف في 8 آذار/مارس العام 1959، واستقالة الوزراء القوميين في 6 شباط (فبراير) من العام ذاته، وقد كان هناك شعور عام مفاده اختلال العلاقة بين قوة الحزب ونفوذه من جهة وموقعه في السلطة من جهة أخرى، أي بين دوره في التحضير لثورة 14 تموز(يوليو) 1958 وحمايتها والتصدّي لأعدائها، وبين الموقع الفعلي للحزب في الحكومة وأجهزتها المختلفة، وتغذّى مثل هذا الشعور، بل ساد في أوساط الحزب المختلفة، لاسيّما في المقاومة الشعبية، والتنظيم العسكري للحزب في الجيش، خصوصاً لدى المراتب الدنيا، إلى داخل أوساط من قيادة الحزب، التي كان يتنازعها أكثر من وجهة نظر.
قلتُ له ما هو رأيك أنت بالذات؟ قال لم أكن على علم بالموضوع، وقد استغربت أن يرفع مثل هذا الشعار في عيد العمال، وبحثت عن سلام عادل الذي كان في بناية قرب حافظ القاضي، وهو يشاهد المسيرة العمالية والشعبية التي تمرّ من أمامه ويراقب شعاراتها (والتي سمّيت مسيرة المليون) وسألته: كيف يحصل هذا، ويعني رفع شعار الحزب الشيوعي بالحكم؟ وهل هو قراركم ولكن لماذا في عيد العمال؟ ويشرح آرا أسباب عدم قناعته بقوله: كنّا نحاول أن نفصل العمل النقابي والمهني عن العمل الحزبي والسياسي. ويمضي آرا بالقول لقد استمع لي سلام عادل بكل رحابة صدر وقد أبقاني معه، وقابل هناك عدد من القياديين واستفسر منهم عن رأيهم، ثم اصطحبني إلى جريدة اتحاد الشعب في شارع الكفاح، وهناك أيضاً التقى في اجتماع مغلق مع عدد من القياديين، وبقيت انتظر، وقد قضيت معه النهار بكامله.
قلت لآرا كما تعلم فقد ترسّخ في أذهان جيلنا منذ أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، إن هناك اتجاهين في الحزب، أحدهما يميني مهادن والآخر يساري أو ثوري، ومنذ ذلك التاريخ والجدل لم ينقطع حول هذه المسألة التي لها علاقة بموضوع توجّه الحزب من أجل استلام السلطة، حيث كانت الإمكانية متوفرة في عهد عبد الكريم قاسم، وخصوصاً عند تراجعه عن توجّهاته، ومحاولاته تقليم أظافر اليسار بشكل عام والحزب الشيوعي قوته الأساسية بشكل خاص.
وكنت قد حضرت حواراً وجدلاً دار بين عامر عبدالله عضو المكتب السياسي في العام 1959وصالح دكله (سكرتير لجنة بغداد وعضو اللجنة المركزية حينها)، وذلك في دمشق العام 1982، بشأن خطة السيطرة على بغداد وعلى السلطة، والتي كما يذهب البعض إن سلام عادل وجمال الحيدري قد خطّطا لها خارج نطاق المكتب السياسي، بل والكثير من أعضاء اللجنة المركزية، وأُبلغ صالح دكله بتنفيذها، وحسب دكله: اقتضت الخطة النزول إلى الشارع والسيطرة على المرافق العامة، كما ألمح لها في مذكراته، لكن عامر عبدالله يشكّك في أصل الرواية، وهو ما جاء على ذكره في لندن في ندوة أقيمت له في النصف الأول من عقد التسعينيات من القرن الماضي في الكوفة كاليري، وقد نشرت في كتابي "عامر عبدالله – النار ومرارة الأمل" المحاضرة والمناقشات التي دارت بين دكله وعبدالله، في حين إن دكله يقول " إن عبد الكريم قاسم أرسل عامر عبدالله يستوضح الأمر ويحول دون تنفيذ الخطة وذلك بعد علمه بمحاولة الانقلاب والسعي لتسليم السلطة وجعل الأمر الواقع واقعاً".
وقد نمى إلى علم قاسم وجود الحشود الجماهيرية في الشوارع ( حسبما تقضي الخطة) والتي استمرت حتى ساعات الفجر الأولى ليلة 3-4 تموز (يوليو) 1959 وتحرّك بعض القطعات العسكرية واستنفار عدد من الضباط والجنود.
وحسب صالح دكله، كان عامر عبدالله يبحث عن سلام عادل الذي بقي متوارياً في عكَد الأكراد، ويرسل توجيهاته من هناك إلى لجنة بغداد. وكنتُ قد سألت عامر عبدالله عن الموضوع، فأجاب ساخراً: إذاً لماذا لم يفعلها الثوريون اليساريون؟ لكن قرار سلام عادل وجمال الحيدري ومعهما دكله وآخرين، تأجيل الموضوع، قد يكون له ما يبرره، لأسباب موضوعية وذاتية، وفي كل الأحوال كانت بروفه اختبارية لمدى قدرة الجهاز الحزبي على التنفيذ.
وسواء كان ثمة وجود خطة أو عدم وجودها، فإنها ظلّت في الصدور ولم يفصح عنها ولم يجرِ الحديث عنها رسمياً، وكنت قد سمعت عن خطة لم أتوثق منها بعد، قدمتها اللجنة العسكرية تقضي بإنزال تظاهرات حاشدة في باب الشيخ، فيرسل قاسم قوات عسكرية لقمعها، وعندها تتحرك القطعات إلى وزارة الدفاع لإلقاء القبض عليه، وتستولي على الإذاعة لتعلن خبر القضاء على المؤامرة الرجعية (المزعومة)، ويكون الحزب قد ظهر بصفة المدافع عن النظام واستلم السلطة بعد تنحية قاسم، وبصورة سلمية!!
وإذا كان خبر نزول الجماهير إلى الشارع صحيحاً، فهل رواية صالح دكله صحيحة أم نفي عامر عبد الله هو الصحيح؟ قد يكون سبب نزول جماهير الحزب الشيوعي إلى الشارع وبقائهم فيه إلى مطلع الفجر، حيث وجهت إليهم التعليمات بالانسحاب، هو لإحراج عبد الكريم قاسم الذي دلّت مؤشرات كثيرة على تراجعه عن التحالف مع الحزب الشيوعي، لا سيّما بعد أحداث الموصل، وعشية أحداث كركوك العنفية المأساوية التي اتهم قاسم، الحزب بارتكابها، في محاولة غزل لأطراف الصراع الأخرى، خصوصاً بعد خطاب كنيسة مار يوسف (لاحقاً). 
كما يمكن أن تكون رغبة الاستيلاء على السلطة قد خامرت سلام عادل أو داعبت مخيّلته باستذكار نموذج كيرنسكي، لكنّ الأصح أن الحزب لم يكن لديه أية خطة لذلك، وأن إستراتيجيته حتى بعد أن انتقد نفسه وتراجع لم تبدِ أية ردود فعل كبيرة إزاء هجوم قاسم ضده واستمر شعاره: «كفاح، تضامن، كفاح» وهو شعار عائم ودون أي معنى سياسي. وعندما اندلعت الحرب ضد الشعب الكردي بضرب مناطق البارزانيين في أيلول (سبتمبر) 1961 رفع الحزب شعار «السلم في كردستان» وهو شعار بلا معنى وبلا مضمون، لغياب نقطة واضحة لتوجهاته المستقبلية وبالأخص في تحديد الموقف من حقوق الشعب الكردي والسلطة السياسية ككل.
وأغلب الظن أن نزول الجماهير إلى الشارع في التظاهرة "المليونية" الشهيرة كان يهدف إلى إظهار قوة الحزب الشيوعي وإبراز عضلاته على أمل الحصول على المزيد من المكاسب، لا سيّما بعد ارتياب قاسم من رفع الحزب الشيوعي في 1 أيار (مايو) 1959 شعار المطالبة بالمشاركة في الحكم.
وكان تعليق آرا خاجادور إن من كان يؤيد خطة من هذا النوع ويصرّ على نجاحها من التنظيم العسكري هو عطشان ضيّول الايزرجاوي، في حين إن سلام عادل استفسر من الرفيق ثابت حبيب العاني الذي كان مسؤولاً عن الخط العسكري فتحفظ على الخطة، وقد قام باستطلاع رأي المكتب العسكري فكان رأيهم قريباً من رأيه، ورأى بعضهم (وهم من كبار الضباط) إن جماهيرنا ليست ملكاً لنا، بل إن بعضها شراكة بيننا وبين عبد الكريم قاسم، وقد تتحوّل لصالحه في حال اصطدامنا به أو محاولتنا الانقلاب عليه. وهذا ما رواه آرا وما هو قريب من الواقع كما أعتقد.
V
كنتُ قد عنونت هذه المقالة بـ" زيارة التاريخ"، وقد وجدت بعض القضايا غير موجودة في الكتب، وبعض شهودها غادرونا، ولهذا يبقى رأي آرا وذاكرته مهمين جداً أولاً لأنه مشارك في الحدث أحياناً أو شاهداً أو مطلعاً عليه، وثانياً لأنه بعد كل هذه السنوات المضنية ورحلة العمر القاسية، يحاول أن يروي للتاريخ وعنه ومنه، فهو جزء من كل ذلك.
أذكر إن آرا عندما اطلع على كتابي سعد صالح: الضوء والظل الوسطية والفرصة الضائعة، كتب لي يحييني وقال إن لديه بعض الملاحظات والمعلومات الإضافية بخصوص سبب عدم ترخيص سعد صالح وزير الداخلية،في حينها، لحزب التحرّر الوطني (العام 1946)، وحين التقينا أخبرني آرا إن الحزب عتب على سعد صالح وأرسل موفداً عنه للقائه، وكان من المعارف المقرّبين إليه عائلياً، وهو حسين محمد الشبيبي، عضو المكتب السياسي، وهو من النجف أيضاً، وعندما شرح سعد صالح أسباب ذلك، تفّهم الحزب موقفه ودوافع مثل هذا الإجراء، وكان الرفيق آرا قد سمع ذلك خلال فترة سجنه بشكل غير مباشر من الرفيق فهد وحسين محمد الشبيبي، وذلك قبل إعدامهما وقد أدرجت هذه المعلومات المهمة في طبعة الكتاب الثانية.
وكان سعد صالح قد قدّر إن إجازة حزب يشكّل واجهة للحزب الشيوعي سيكون محرجاً له ولمبادرته لإجازة الأحزاب، علماً بأنه أجاز خمسة أحزاب هي: حزب الشعب (برئاسة عزيز شريف- ماركسي) حزب الاتحاد الوطني (برئاسة عبد الفتاح ابراهيم – ماركسي) الحزب الوطني الديمقراطي (برئاسة كامل الجادرجي- ليبرالي معارض) حزب الاستقلال (برئاسة محمد مهدي كبّه- قومي عربي معارض) وحزب الأحرار (وطني ليبرالي – خرج من معطف الحكومة ليرتدي عباءة المعارضة وأصبح سعد صالح بعد استقالة الوزارة رئيسه بعد أن كان توفيق السويدي).
كما سمح سعد صالح لـ" عصبة مكافحة الصهيونية" بالعمل العلني وهي واجهة للحزب الشيوعي أيضاً، وقدّر إن إجازة حزب التحرّر الوطني سيؤدي إلى إلغاء الأحزاب جميعها، وإذا اقتصرت لجان الأحزاب على بغداد وبعض مراكز المحافظات، فلأنه كان يريد للتجربة أن يقوى عودها لتنتقل إلى مراكز الأقضية وحتى النواحي، لكنها لم تستمر وأطيح بالوزارة بعد 97 يوماً فقط من تكليفها، علماً بأن الإجراءات التي اتخذها لقيت معارضة شديدة من جانب السلطة. وقد كتب جهاد الخازن تقريضاً لكتابي عن سعد صالح في جريدة الحياة (28/12/2011) جاء فيه: إن ما أنجزه سعد صالح السياسي العراقي، المثقف والمتعدّد المواهب في مئة يوم في حكومة توفيق السويدي سنة 1946 لم ينجزه غيره في عقود.
وتراجعت السلطة عن تلك الإجراءات التي شملت الترخيص للأحزاب وإطلاق حرّية الصحافة وتبييض السجون، واتجهت وزارة أرشد العمري لتكبيل الأحزاب تمهيداً لإلغائها وتكميم الأفواه وتقليص الحريات، بل واللجوء إلى العنف والقوة، وكان أول شهيد هو شاؤول طويّق اليهودي الشيوعي، في التظاهرة التي دعا إليها الحزب وعصبة مكافحة الصهيونية في 28 حزيران (يونيو) 1946، فقد أطلقت الشرطة النار على المتظاهرين عند اقترابهم من السفارة البريطانية واستشهد طويّق وجرح أربعة كما يذكر هنا حنا بطاطو.
ولم أحصل على معلومة لقاء الشبيبي بسعد صالح سوى من آرا خاجادور، ولم أجدها في الكتب والمكتبات، بما فيها موسوعة التحقيقات الجنائية، ولم ترد في أي مصدر.
أعود إلى التاريخ، فقد لفت انتباهي موضوع تشكيل قوات الأنصار الشيوعية (العربية) ولم يكتب عنه سوى نتف قليلة، فكيف حصل مثل هذا التطور المفاجئ، حيث كانت الحركة الشيوعية ترفع شعار " إزالة آثار العدوان" في حين كان شعار المقاومة " تحرير فلسطين"، وسألت آرا، فقال لي تعلم إن جانباً من عملي تركّز على التنظيمات العسكرية والعمل المسلّح، ولذلك عندما تقرّر تشكيل قوات الأنصار انتدبني الحزب مع الرفيق ثابت حبيب العاني (أبو حسان) لنكون مسؤولين عنها، لكن التجربة لم تكتمل، وكانت أحداث الأردن وما تعرّضت له المقاومة سبباً في تراجع العمل حتى تم وقفه من الناحية العملية.
وكان السوفييت قد أرسلوا بعض الأسلحة عبر ميناء اللاذقية السوري إلى منظمة الأنصار، التي لم تتمكن أن تجد لها مكاناً بين منظمات المقاومة على الرغم من الترحيب بتأسيسها، لكن خطها السياسي كان مصدر نقد. وكان الحزب كما يقول آرا قد أرسل عسكريين ليقوموا بالتدريب وكوادر فنّية ومساعدات مادية، وحسب ثابت حبيب العاني في مذكراته: إن إصرار اسرائيل على موقفها يعطينها الحق في الكفاح (المسلح).. خصوصاً وجود حزبين شقيقين هما اللبناني والأردني يواجهان المعتدين بشكل مباشر.
لقد أجرى الحزب الشيوعي اللبناني مراجعة جريئة لمواقفه السابقة بخصوص القضية الفلسطينية ، ابتداء من مؤتمره الرابع العام 1969 وتبنّى توجّهاً متميّزاً ودعا إلى العمل المسلح، وكان هذا الأمر مصدر صراع في الأحزاب الأربعة: الحزب الشيوعي السوري (الذي انشق لاحقاً وخرجت منه كتلة عُرفت باسم المكتب السياسي بقيادة رياض الترك) وكان يدعو إلى كيانية شيوعية عربية وقيادة موحدة بين الأحزاب الأربعة أقرب إلى القيادة القومية، وهو اتجاه عارضه زكي خيري وثابت حبيب العاني لدى اجتماع جرى في دمشق. والحزب الشيوعي الأردني (الذي انشق وقاد فهمي السلفيتي كتلة خارجه وكان يعارض فكرة الكفاح المسلح أو اللجوء إلى القوة لتحرير الأراضي) والحزب الشيوعي اللبناني الذي كانت لديه مشاكل مع الحزب الشيوعي السوري واتهامات ظالمة لأمينه العام جورج حاوي، ويبدو إن الأجهزة السوفيتية كانت وراءها، وهو ما كشف عنه كريم مروّة مؤخراً في معرض حديثه عن العلاقات الروسية – العربية، فأشار إلى أن اتهام حاوي الذي ردّده بعض القيادات الشيوعية، لم يكن بمعزل عن سوسلوف وبوناماريوف، والهدف هو معاقبة الحزب الشيوعي اللبناني على مواقفه التجديدية التي لم تروق لموسكو حينها .
وكانت المبادرة لتشكيل هيئة قيادية للأحزاب الأربعة والتي لم ترَ النور قد جاءت من الحزب الشيوعي اللبناني، في حين كان رأي الحزب الشيوعي العراقي حسب آرا هو التنسيق في المجالات المختلفة، وحصل اجتماعان في عمان وآخر في بغداد، وقد زار وفد يمثل حركة الأنصار البلدان الاشتراكية، وكان آرا خاجادور ممثل الحزب فيه. وكانت فكرة حركة عربية شيوعية وقيادة مشتركة قديمة، ففي العراق طرحها سليم الجلبي في أواخر الخمسينيات وفي سوريا رياض الترك، وكان الحزب الشيوعي اللبناني قد تبنّى الفكرة وعمل عليها، ثم طرح فكرة مفادها من أجل حركة ثورية عربية جديدة، وهي فكرة أوسع من الحركة الشيوعية وأقرب إلى الكتلة التاريخية حسب المفكر الماركسي أنطونيو غرامشي، وهو ما كان جورج حاوي متحمساً له، ولاسيّما قبيل استقالته من إدارة الحزب.
لا أظن أن أحداً من إدارة الحزب الشيوعي العراقي يمتلك معلومات عن مفاصل خاصة وسرّية للغاية، مثلما يمتلكها آرا خاجادور، وأرى من واجبه ومن حقنا عليه وحق الشعب أن يكشفها وأن يزيح الستار عنها ولا يجعلها محبوسة مثل البيان المحبوس الذي أشار إليه، وذلك خدمة للأجيال القادمة.
وسبق أن كتبت عن كتاب شوكت خزندار " الحزب الشيوعي العراقي- رؤية من الداخل" في مجلة المستقبل العربي العدد 337 ، تاريخ آذار (مارس)، 3/2007، الموسوم " حديقة خزندار الشيوعية السوداء"، تقريضاً أشرت في مقدمته إلى مطالبتي لآرا خاجادور لكي يكتب مذكراته، وكذلك إلى عزيز محمد . وإذا كان آرا قد وعد بذلك وقال إنه يشتغل عليها، فقد مضى نحو عقدين من الزمان، ولكنها لم تظهر، علماً بأن كتابه نبض السنين فيه إشارات مفيدة إلى حوادث تاريخية وإضاءات مهمة على بعض المنعطفات.
وإذا كانت المقالات الـ60 المكتوبة في نبض السنين مجمّعة وبنت ظرفها، فإن قراءة ارتجاعية، تأملية، انتقادية للماضي، خصوصاً نقد المواقف الخاطئة بما فيها مواقفه عبر نقد ذاتي، ستكون رصيداً جديداً له في مسيرته الكفاحية التي زادت على سبعة عقود ونيّف من الزمان.
في حينها اعتذر عزيز محمد على عدم كتابة مذكراته، وأعتقد إن الواجب والمسؤولية، تلقي عليه القيام بذلك، ومن حقنا مجدّداً أن نطالبه، وأي تلكؤ مهما كانت المبررات فإنه سيعني ضياع الكثير من المعلومات والأسرار معه، في حين إن المهمة النضالية تقضي كشفها ووضعها في ذمة التاريخ، ليتم تفحصها ومناقشتها أسوة بالمذكّرات الأخرى، مثلما هي مذكرات باقر ابراهيم وبهاء الدين نوري وجاسم الحلوائي وأحمد باني فيلاني ورحيم عجينة وصاحب الحكيم وآخرين.
لم أقتنع بمبرّرات الرفيق أبو سعود، بأنه ليس زعيماً مثل كامل الجادرجي أو محمد مهدي كبه أو مصطفى البارزاني أو حتى مثل الجواهري ليكتب مذكراته، كما أنه ليس بكاتب كما يقول، وإن كان محدثاً لبقاً ولديه ما يقوله، وهذا سبب غير مقنع أيضاً، فالكثير اليوم ممن يكتبون مذكراتهم لا يقومون هم بذلك وإنما يروونها أو يتحدثون لآخرين يساعدونهم في كتابتها ، وهناك من يقوم بالتحرير، وليس عيباً في ذلك، وهذه وظيفة أو مهمة بحد ذاتها، وقد قام الصديق حميد برتو بمساعدة آرا خاجادور بكتابة بعض مطالعاته ومداخلاته، بما فيها كتاب نبض السنين ، وقام بتقديمه أيضاً. أقدّر إن مطالباتي القديمة قد لا يكون لها نفس الحماسة الآن، بسبب أحكام العمر، ولكن الأوراق التي بحوزة هؤلاء الرفاق أو بعض ما كتبوه يمكن أن يُعهد بها إلى أيدي أمينة، لكي تخرجها إلى دائرة الضوء، وتجعلها بيد القرّاء.
لدى آرا خاجادور خزين كبير عن العلاقة بـ KGB والأجهزة الأمنية في البلدان الاشتراكية، وهو الأكثر معرفة بالتفصيل عن الأشخاص الذين عملوا فيها، ليس على المستوى العراقي فحسب، بل على المستوى العربي ودول المنطقة، وخصوصاً من القوى الثورية اليسارية والتنظيمات المسلّحة، وأرى من الواجب أن يفصح عنها، وكذلك يفصح عن المكلّفين رسمياً أو الذين أصبحت لهم علاقات خاصة، وماذا كان موقف الحزب؟ ثم هل اشتكى يوماً إلى السوفييت أو إلى أجهزة الدول الاشتراكية اختراقاتها للأحزاب الشيوعية وللحزب الشيوعي العراقي؟
لا أعتقد أن إخفاء المعلومات باعتبارها أسراراً سيفيد الحركة الشيوعية الآن، وعلى الشيوعيين والناس عموماً الاطلاع عليها، وكانت أجهزة الدول الاشتراكية قد كشفت من تعاونوا معها وقامت بنشر ذلك بالصحف، والأمر لا يتعلق بالأشخاص، بل بالظاهرة، والأمر يحتاج إلى معالجة أعتقد إن آرا جدير بها وهو عمل سيُذكر له، خصوصاً لكي يتم التميز بين ما هو مبدأي وأممي في العلاقات وبين ما هو مصلحي وذاتي، والأمر يتطلب تقديم كشف حساب بما لها وما عليها، نتمنّى ونأمل أن تساعده أوضاعه الصحية على إنجاز هذه المهمة النضالية.
وإذا كانت بعض الدول تخفي أسرارها، فبعد 30 عاماً أو 50 عاماً تصبح تلك الأسرار، بل أدقها بما فيها من وثائق ومعلومات خاصة، بيد الباحثين والدارسين، وهي خدمة ما بعدها من خدمة للشيوعية.
ثم ما هو جهاز أمن الحزب؟ وهل هو جهاز لحماية أمن الحزب؟ وما هي مهماته؟ وماذا قام به من أعمال لردّ الاختراقات؟، وكيف عمل؟ وهذا هو الآخر أصبح جزءًا من الماضي وإذا كان في حينها يقتضي السرية التامة، والحديث عنه يعتبر تفريطاً بأسرار الحزب، فإن الصورة قد تغيّرت الآن، لاسيما بعض ما ترشّح عنه وما اختلط به، ويريد الشيوعيون قبل غيرهم أن يعرفوا الحقيقة، خصوصاً في ظل اتهامات ضد الجهاز، بأنه استغلّ النفوذ وأوقع ببعض الرفاق وغامر بهم، واستخدم في الصراع الداخلي، فما هو حقيقة الأمر؟ وكيف يجيب آرا على ذلك؟
وإذا كان آرا معنياً بجهاز أمن الحزب، فهل له أن يعرّفنا على الاختراقات التي حصلت في صفوفنا من جانب الحزب الحليف كما كنا نسمّي حزب البعث، بكثير من التهذيب والاحترام، خلال فترة الجبهة؟ كما هل له أن يقول لنا عن الاختراقات التي حصلت في صفوفنا بعد ذلك وفي الخارج في فترة المعارضة؟ ولماذا كان من يُرسل إلى الداخل سرعان ما يتم إلقاء القبض عليه، إلاّ باستثناءات محدودة؟ ثم من هو المسؤول عن ذلك؟ وما هو موقف جهاز أمن الحزب؟ وهل يتمكّن آرا باعتباره مسؤولاً عن الجهاز، أن يقول لنا من هي الجهات التي قامت باختراقنا عربياً ودولياً (غير أجهزة البلدان الاشتراكية)؟ وكيف تم التعامل معها وتحت أي المبررات؟
وبعد ذلك لماذا الصراع كان حاداً واللعاب سائلاً على جهاز أمن الحزب؟ وكأن الأمر سباق ماراثوني، حيث شهدت الثمانينيات مراكز قوى متناثرة وأجهزة خاصة، وكلّ يدعي وصل بليلى، أي (خدمة الحزب) وليلى لا تقر لهم بذاك أهو سباق للعلاقة مع المراكز الأممي وأجهزة البلدان الاشتراكية أو للاستقواء الداخلي وللتسيّد على الرفاق، أم ماذا؟.
وأعتقد أن آرا أكثر من يستطيع إخبارنا عن تفاصيل المؤتمر الرابع وكيف تم التحضير ومن هي الجهات التي ساهمت في إخراجه وما هو موقفه، خصوصاً وأن المؤتمر ضحّى بنصف إدارة الحزب تقريباً وبعشرات من الكوادر، وكان بمثابة انشقاق أو انشطار بين كتلة طاردة وكتلة مطرودة، وكلاهما انشقّ لاحقاً؟ علماً إن آرا انتقل من موقف المساهم والمشارك في التحضير للمؤتمر وأصبح عضواً في المكتب السياسي، ومسؤولاً عن حركة الأنصار، إلى معارض لتوجّهات إدارته، وقد شملته النزعة الإقصائية أيضاً في وقت لاحق، فأبعد من إدارة الحزب.
وعلى آرا أن يخبرنا بتفصيل أكثر عن البيان الذي لم ير النور " المُختبِئ" أو حسبما يحلو له أن يسمّيه بالمحبوس ويعتبره أحد نماذج المصالحة الوطنية ويقصد مع حزب البعث. وذلك بحضور الوسيط مكرم الطالباني وعزيز محمد وجلال الطالباني، وقد اعتذر مسعود البارزاني عن الحضور، ولكنه أكد اتفاقه مع كل ما يتم الاتفاق عليه وقد نشرنا في كتابنا " عامر عبدالله- النار ومرارة الأمل" تفاصيل عن هذا اللقاء، بما فيه من سهّل مهمته واستضافه وأقصد (سميح عبد الفتاح- السفير الفلسطيني وانعقد في فندق الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي الجديد في العاصمة براغ)، إضافة إلى لقاءات مكرم الطالباني مع عامر عبدالله ونوري عبد الرزاق (الذي كان يمثل حركة المنبر الشيوعي).
والبيان عبارة عن توجّه جديد حاولت فيه إدارة الحزب أن تطرح برنامجاً أكثر مرونة أو أقل تشدّداً تخاطب فيه السلطة البعثية بعد انتهاء الحرب العراقية- الإيرانية وذلك بالشراكة مع القوى الكردية، وقد تم الاتفاق على إصدار بيان بهذا المعنى. وكلّف الحزب الشيوعي بطبعه، ولكن عندما توجّه عبد الرزاق الصافي لطبعه في الشام، انقلب الرفاق على أنفسهم بقدرة قادر حسبما يقول آرا، ومضمون البيان يحتوي على توجّه جديد باستبعاد شعار إسقاط النظام، ورفع مطالب للضغط على الحكومة للتراجع عن نهجها الاستبدادي وإقرار التعدّدية وإشاعة الحرّيات وحلّ المشاكل القائمة، خصوصاً القضية الكردية وإعادة المهجرين العراقيين وتعويضهم، والتركيز على مهمات إعادة بناء ما خرّبته الحرب، وهو الاتجاه الذي كان قريباً من البلاتفورم الذي طرحه المنبر الشيوعي في 28/8/1988، وإنْ كان هذا البيان قد جاء بعده ببضعة أشهر (الربع الأول من العام 1989).
وبغض النظر عن الجوانب التنظيمية ومحاولات التأليب واستخدامه في الصراع الداخلي كما يشير آرا ضده، فإن الجوهري في البيان هو الجانب الفكري بما فيه فلسفة إدارة الحزب وتحكّم مكتبه السياسي الذي أقصي منه آرا في إطار صراع محموم على المواقع.
وجدير بالذكر إن مالية الحزب لم يطّلع أحد عليها أحد بما فيها الموارد وأوجه الصرف، وهو ما يشير إليها آرار في كتاب " نبض السنين" وكثيراً ما كان السؤال يتردّد هل كان للحزب موارد أو مساعدات من جهات معينة ومن هي؟ وكم كان يصله شهرياً أو سنوياً؟ وهل كان له أموال غير منقولة (أملاك أو عقارات) كما يقال وما هو مصيرها؟ وهل هناك مشاركة مع تجار؟ وكيف يمكن الاطلاع على ذلك وتدقيقه؟ ثم من يقرّر الصرف، وإذا كانت تلك أسرار سابقة، فلم تعد حالياً أسراراً في الوقت الحاضر، وعلى آرا وغيره كشفها والتعامل معها بشفافية ومسؤولية خدمة للأجيال القادمة. ومثلما نطالب الدولة بالشفافية، فمن باب أولى أن نتحلّى بها.
VI
بعد أن زارت سنا متحف الشيوعية برفقتي بما فيه من إيجابيات وسلبيات، حدثتها عن يوليس فوجيك، خصوصاً بعد زيارة قلعة براغ (قرب القصر الجمهوري)، وكيف حاول الألمان مساومته، حين جلبوه إلى هذا المكان الساحر، الذي تفيض فيه براغ بعطرها وجمالها من خلاله، ولذلك ليشاهد المدينة بأبراجها وكنائسها وقصورها من عليائه وهي شامخة ويقتسمها النهر الذي تنتصب عليه عدّة جسور وتجري من تحتها مياه الفلتافا الجميل، قالوا له: أترى براغ كم هي جميلة؟ أجابهم نعم براغ جميلة، ولكنها بدونكم ستكون أجمل (أي بدون المحتلين الألمان).
وعلى مثل هذا القول كانت كلمتي الأولى في احتفال الجامعة المستنصرية بعودتي وتكريمي بعد غياب طويل وهو مدخل لمحاضرة ألقيتها بالمناسبة قلت حينها: كنتُ أتمنى أن أزور بغداد الحبيبة وأن لا أرى المحتلين الأمريكان فيها. كم كنت مشتاقاً إلى بغداد؟ وكم أنا حزين الآن؟ (والكلام موثّق ومنشور في حينها وقام بتقديمي يومها الشهيد د. عبد اللطيف المياح حزيران/يونيو/2003). وعدتُ وكرّرت مضمونها في النجف في المحاضرة التي ألقيتها بتاريخ 3 تموز (يوليو) 2003.
قالت سنا البعض يضحي والبعض يتآمر: أرأيت الصور في المتحف كيف افترسهم ستالين واحداً واحداً؟ وكيف استولى على التاريخ؟ حتى إنه مسح صورهم. حدثتها عن كليمانتس وزير خارجية تشيكوسلوفاكيا الأسبق الذي وضع قبّعته على رأس زعيم الحزب غودوالد الذي كان منهمكاً بإلقاء خطاب في ساحة المدينة القديمة (ستاريسكا ناميستي) حين كان الثلج ينهمر، وذلك لحماية رأس الرفيق. يومها ضجّت أجهزة الدعاية وهي تنقل الصورة الحميمة والرفاقية، وانشغلت بها البلاد لبضعة أسابيع، ولكن بعد أربع سنوات من تلك اللفتة الإنسانية لحماية رأس الزعيم، فقد كليمانتس المسكين رأسه، ومرّة أخرى حشدت وسائل الدعاية كل ما تستطيع لتثبت تهمة الخيانة بحق كليمانتس وشُطِبَ اسمه وأمحيت صوره من الأرشيف، في حين ظلّت قبّعته وحيدة. وحصل الأمر مع ألكسندر دوبتشيك قائد الحزب الذي دعا إلى اشتراكية ذات وجه إنساني، في العام 1968، فقامت الدبابات السوفيتية باجتياح تشيكوسلوفاكيا للقضاء على ربيع براغ كما سمّي، وليُرسل هو إلى إحدى المزارع التعاونية في سلوفاكيا كموظف عادي، وهو ما كانت قد شاهدته بالصور، ثم أصبح بعد انهيار النظام القديم، رئيساً للجمهورية، ومثله مع إمري ناج زعيم الحزب الشيوعي المجري، الذي أزيح عن السلطة بعد التدخل السوفييتي في العام 1956، ثم أعدم.
ليس بعيداً عن ذلك مجزرة قاعة الخلد العام 1979، الشبيهة بمجازر محاكمات ستالين في الثلاثينيات، ففي قاعة الخلد أجهزت قيادة السلطة والحزب الحاكم في العراق (حزب البعث العربي الاشتراكي) على ثلث أعضاء القيادة بإعدامهم بتهمة الخيانة والتآمر وحكم على 33 عضواً بأحكام غليظة لم يبق منهم بعد أربع سنوات سوى 17 حيّاً. أما البقية الباقية فقد توفيّت في السجن. يومها بكى صدام حسين بعد أن أرسل رفاقه بضربة واحدة إلى الموت أو إلى السجن. 
وقد أعدم ستالين المئات من قيادات الحزب وكوادره وفي مقدمتهم بوخارين الذي كان لينين يسميه "محبوب الحزب" وزينوفيف وكامينيف واضطر تروتسكي إلى الهرب، إضافة إلى مئات الآلاف من الناس الذين تعرضوا إلى الموت وأكثر منهم إلى التعذيب والسجن. وفي كلا الحالين سواء بالتمجيد أو بالتنديد، وبالتقديس أو بالتدنيس، كانت الماكينة الدعاية تتحرّك ضد الآخر ، الغير ، الخصم، العدو.
سمعت سنا الكثير عن ارتكابات النظام السابق، لكن حادث قاعة الخلد الذي سمعته لأول مرّة كان الأكثر رعباً بالنسبة لها، خصوصاً ما يتعلّق بمعايير الصداقة وقيم النضال والرفقة، وهو الأمر الذي أعادها إلى آرا، التي ظلّت تحمل صورته في تلفونها الصغير، ولا أدري ماذا كتبت عنه في دفترها؟
وخاطبتني بعد ذلك الجو السوداوي المكفهر الذي وجدنا أنفسنا فيه: أما زال عمّو آرا وأنتم تحلمون؟ بعد كل هذا الخراب، فقلت لها "السعادة في النضال والتعاسة في الخنوع" حسب انجلز، ونحن بأعمارنا وبظروفنا في الخارج أو الداخل وما بينهما نسعى للدفاع عن الحق عبر النقد والتنوير واللاّعنف ورفع شأن قيم الحرّية والمساواة والعدالة الاجتماعية، واحترام حقوق الإنسان وتلك وسيلة وغاية نؤمن بها، خصوصاً بتشخيص أخطائنا ومحاولة تجاوزها، دون أن نعفي أنفسنا.

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=495267