مقدمة قد يكون العنوان ً غريبا، وربما ً مستهجنا بعض الشيء، لكن واقع الحال يتطلب، ليس فقط عملية ترميم للعقل المعماري العربي الإسلامي، بل عملية جراحية تستأصل الـورم السرطاني المنتشر فـي هـذا العقل والمسيطر عليه؛ المتمثل بسطوة العمارة الغربية، ً عمليا، ً ونظريا، ً وتـربـويـا، ً وتعليميا، عليه. فـلا وجــود للفكر المعماري الـعـربـي الإسـلامـي الأصـيـل فـي العقل المعماري العربي الإسلامي، إلا استثناءات قليلة جـداً غير فاعلة، ومقتصرة على عدد محدود من المعماريين العرب، لا يتجاوز أصابع اليدين. أما باقي الاستثناءات القليلة فمعلوماتهم عن العمارة الإسلامية، َت َح َّصَل ْت بمفاهيم الاستشراق القائمة على التحليل الشكلي للأعمال المعمارية، وتصنيف العمارة الإسلامية إلـى طـرز، ً طبقا لفلسفة التاريخ الغربي القائمة على التحقيب (١) القائمة على: التواصل التاريخي، والدروس والعبر، التاريخي؛ ً خلافا لفلسفة التاريخ الإسلامي والتفكر والتأمل، والتنوع داخل الوحدة. كما أن مفاهيم الاستشراق ُت ْخضع العمارة الإسلامية لتأثير كل من العمارة البيزنطية والعمارة الفارسية؛ إضافة إلى تغييبها للجسم النظري للعمارة (٢) العربي الإسلامي الشمولي، والمتنوع، والمتكامل؛ الإسلامية؛ أي تغييبها للفكر المعماري ً َوث ًراء من أي فكر معماري آخر، متقدم عليه، أو معاصر له، أو متأخر عنه. أي أنه والأكثر غنى أغنى وأثـرى من الفكر المعماري الغربي المتمثل بالعمارة الحديثة، وعمارة ما بعد الحداثة، badi@go.com.jo. :الإلكتروني البريد (*) (١) انـظـر: بديع العابد، «الفكر المعماري العربي الإسلامي: التفسير التاريخي،» كان التاريخية ( ّعمان)، . ،٣٩ - ٢٢ ص ،(٢٠١٢) ١٦ العدد (٢) انظر: بديع العابد: «الفكر المعماري العربي الإسلامي: البداية - التشكيل - التكوين،» كان التاريخية، . نحو ترميم العقل المعماري العربي الإسلامي بديع العابد(*) معماري استشاري، ورئيس الجمعية الأردنية لتاريخ العلوم، ّعمان - الأردن. بديع العابد / ٣٥ ، التي تحاول القضاء على كل ما هو متواضع ومتفق عليه. والفكر (٣) ولاعمارة نزعة التفكيك ِّس َ ــس على نظريات ُ المعماري العربي الإسـلامـي أرقـى مما يسمى «الـعـمـارة الـخـضـراء»، لأنـه أ (٤) التي وضعها الطبيب أبو زيد البلخي (٣٢٢ - ٢٣٦هــ/٨٥٠ - ٩٣٤م). كما التصميم البيئي ، والمتقدمة ً زمنيا ً ومعرفيا (٥) شمل أقدم وأعمق النظريات والمفاهيم للحفاظ المعماري في العالم َ ْف إلا بعد الحربين العالميتين ـعـر على ميثاق اليونسكو، والمواثيق الدولية الأخـرى، التي لم ُت ْ َس َسِة إلا في ستينيات القرن الماضي؛ ً خلافا لمؤسسة ْ المأ الأولى والثانية؛ ولم تأخذ طريقها إلى َ الوقف التي ولد فيها الحفاظ المعماري العربي الإسلامي، والتي تمت مأسستها على يد الإمام الشافعي (ت ٢٠٤هـ/٨١٩م). هـذا التمايز غيض مـن فـيـض، ْسـردتـه ٍ كمدخل ٍ ومـقـدمـة لتبرير حـاجـة العقل المعماري العربي الإسلامي إلى الترميم. فالترميم المنشود ليس إلا محاولة لاستقلال العقل المعماري العربي الإسلامي عن العقل المعماري الغربي، من خلال إعادة تأهيل العقل المعماري العربي بالفكر المعماري العربي الإسلامي؛ ً بدلا من الفكر المعماري الغربي، الذي استوطن واستقر في العقل المعماري العربي الإسلامي، َوشَّك َل وعي المعماريين العرب والمسلمين، طوال القرنين الماضيين وما زال يشكله حتى وقتنا الحاضر. أولاً: الأهداف والمنهجية إن الهدف من هذهالدراسة هوترميم ِّ مكونات العقل المعماري العربي الإسلامي؛ أي استبدال المكون الثقافي المعماري الغربي السائد في جامعاتنا، وفي ممارساتنا العملية، ِّ بالمكون الثقافي (٦): التجديد، والإضافة، والهدم وإعادة البناء، وذلك العربي الإسلامي. فالترميم هنايتم بتقانات لإحـداث عملية تمكين ثقافي عربي إسلامي في العقل المعماري العربي الإسـلامـي، والوجدان المعماري العربي الجمعي؛ لتحريرهما من سطوة وسيطرة وهيمنة الثقافة الغربية، ولاستعادة حضورنا المعماري والحضاري في العالم. ولتحقيق ذلك يتوجب أن نتخلص من حضور الثقافة (٣) ّ سميتها بلا عمارة لأنها نزعة تقويضية تدميرية هدمية، والتقويضية التدميرية الهدمية كآخر صرعة في العمارة. ّ وتتعزز هذه الطامة بتقليدها، وإنتاج أشكالها، في مـادة التصميم المعماري لأنها تدعو إلى إنتاج عمارة أشكالها غير منتظمة التكوين، ومبعثرة العناصر، وفاقدة لوظيفتها ودلالتها الشكلية والجمالية، كما تدعو ّر عن عدمية مطلقة ّفق عليها في كل الحضارات، وتعب إلى تقويض البنى والتراكيب المعمارية المتواضعة والمت في التصميم المعماري. انظر: بديع العابد، «نزعة التفكيك في العمارة وجذورها التلمودية والقبالية اليهودية،» المنتدى (منتدى الفكر العربي - ّعمان)، العدد ٢٠١١) ٢٥٠)، ص ١٣٢ - ٩٧. (٤) انـظـر: العابد: «الفكر المعماري العربي الإسلامي: البداية - التشكيل - التكوين،» و«التأليف وأصالة العمارة العربية الإسلامية». (٥) انـظـر: بديع العابد، الحفاظ المعماري في الحضارة العربية الإسلامية (الـربـاط: منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والتعليم والثقافة (الإيسيسكو)، ٢٠١٠). (٦) انظر: المصدر نفسه، ص ٩٤ - ٧٣. ٣٦ / المستقبل العربي المعمارية الغربية في النسيجين المعماري والعمراني في المدن العربية؛ وفي المناهج الدراسية بكليات العمارة. وهذا بدوره يتطلب أن نوضح ما هو المقصود بالعقل، وأن نحدد مكان العقل المعماري العربي الإسلامي فيه. ثم نبين كيفية استبداله بالعقل المعماري الغربي، ثم نعرض ِّن مسارها وكيفية توظيفها فـي النسيجين المعماري والعمراني للمدن لعملية الترميم، ونبي العربية، وفي المناهج الدراسية بكليات العمارة، وسأبدأ بمفهوم العقل. (٧) الحبس والمنع، ِّ وسمي عقل الإنسان ً عقلا لأنه يعقله، أي يحجزه ويمنعه العقل في اللغة َّز الله بها الإنسان عن غيره من المدركة التي مي من الوقوع في التهلكة؛ والعقل هو الغريزة َ المخلوقات. والعقل هو العمل بمقتضى العلم، ويدل عليه نفي الكفار للعقل لعدم قدرتهم على الإدراك المعرفي به، أي بالعقل، كما في قوله ْو َن ْع ِق ُل َما ُكَّنا ِفي َ تعالى: ﴿َوَق ُالوا َل ْو ُكَّنا َن ْسَم ُع أ (٨). ً وأيضا في قوله تعالى: َ ْص َ ـح ِ ـاب َّ السِع ِير﴾ أ ِ َّ ـلـن ِ ـاس َو َمـا َي ْع ِقُل َها إَِّلا ْ َ ـك َْ الأ ْم َ ــث ُ ــال َن ْ ـض ِ ـرُب َ ـهـا ل ﴿َوِتـل (٩). وفـي قوله تعالى: ﴿ُيَبِّي ُن َّ الل ُ ـه ـم َ ـون﴾ ُ ِ ْال َ ـعـال . (١٠) َل ُكُم ْالآَي ِ ات َلَعَّل ُك ْم َت ْع ِقُل َون﴾ والــلافــت لـلـنـظـر أن جـمـيـع الآيـــات الـتـي وردت في الـقـرآن الكريم عن العقل تفيد أن العقل أداة للعلم، أي لــلإدراك المعرفي بحقيقة الأمور، سواء المتعلق منها بالإيمان، أو بالظواهر الطبيعية من مخلوقات الله كتصريف الرياح والسحاب، وتسخير النجوم والشمس والقمر... إلخ. والعقل هو المعرفة والبصيرة، وهو مجموعة من القابليات الإدراكـيـة التي ِّ تمكن الوعي والتفكير والذاكرة. والعقل هو النتاج الفكري المحكوم بالمبادئ والقواعد الذهنية السائدة في ْ َدل. استناداً إلى ما فترة زمنية محددة، قد تستمر وتتواصل، أو تنحسر ُوت َحَّنط ومن ُثَم ُت ْسَتب سبق فإن منهجنا في هذه الدراسة سيقوم على توظيف العقل كأداة إدراكية معرفية، ُ وكمَت َح َّصٍل معرفي، أو كمنتج فكري، أي كفكر أو كمنظومة معرفية ذات بناء فكري. والـسـؤال المطروح هنا وقبل الخوض في عملية الترميم هـو: أيـن يقع العقل المعماري العربي الإسلامي (كجزء من العقل العربي الإسلامي الشامل) ضمن مفاهيم وتعريفات العقل (٧) انــظــر: أبـو الفضل محمد بـن مـكـرم بـن مـنـظـور، لـسـان الـعـرب، ١٥ ج (بـيـروت: دار صــادر، ١٣٧٤ - ١٣٧٦هـ/١٩٥٦ - ١٩٥٥م)، ج ١١، مدخل عقل، ص ٤٦٦ - ٤٥٨. (٨) القرآن الكريم، «سورة الملك،» الآية ١٠. (٩) المصدر نفسه، «سورة العنكبوت،» الآية ٤٣. (١٠) المصدر نفسه، «سورة النور،» الآية ٢٤. لا وجـــود لـلـفـكـر الـمـعـمـاري الـعـربـي الإسلامي الأصيل في العقل المعماري العربي الإسلامي، إلا استثناءات قليلة جـداً غير فاعلة، ومقتصرة على عدد محدود من المعماريين العرب. بديع العابد / ٣٧ َّب؟ ٌ فاعل أم ُم َحَّنط؟ ٌ منتج (أصيل) أم ٌ أم ُم َغي السابقة؟ وهل هو ُم ْكَتَمٌل أم غير ُم ْكَتَمل؟ حاضر ْ َرد؟ وما هو العقل المعماري السائد في عالمنا العربي ً حاليا؟ ُم َستو يقع العقل المعماري العربي الإسلامي، في رأيـي، ضمن المفهوم القرآني للعقل، أي هو (١١). وأعني بالمكتمل أن هذا أداة إدراكـيـة، ُومَت َح َّصل معرفي فكري تراكمي مكتمل التكوين العقل شمل جميع مناحي المعرفة المعمارية وعالجها بعمق فكري غير مسبوق في تاريخ ، والمقياس (١٢) العمارة، بل في تاريخ الإنسانية. ففيه ُو َجدت أحكام البنيان ومنهجيات التصميم الإنساني، وبيانات التصميم، وتقانة رسم المنظور، ونظريات التصميم البيئي، وحقوق الارتفاق، والمفاهيم الوظيفية، ومفاهيم المتانة، والجمال، والاقتصاد، ونظريات الإدراك، ُوطبقت فيه قواعد السلوك الاجتماعي كالخصوصية والوقاية، والمتطلبات النفسية للمستعملين كنفي الضرر ُ ِس َست فيه أول بجميع أشكاله ومسبباته؛ ُووظفت فيه العلوم الهندسية والحساب، والمساحة؛ وأ َّنت ً سابقا؛ إضافة إلى نظريات التخطيط العمراني منظومة حفاظ معماري في العالم كما بي والعمران الشجري. وبالجملة فإن العقل المعماري العربي الإسلامي هو الأرقى في العالم، لأنه مورس منذ بدايته بأرقى منهجيات التصميم المعماري، وهي منهجية الأحكام. المَت َح َّصل المعرفي، أي العقل المعماري العربي الإسلامي، الذي ُحِدَدت أطره العامة هذا ُ في القرآن الكريم، وتشكلت في المصادر الأدبية والعلمية والجغرافية، والتاريخية؛ واكتملت َّب ُوم َحَّنط وغير فاعل، على الرغم من أنه إنتاج أصيل في المصادر المعمارية، هو عقل ُم َغي في الحضارة العربية الإسلامية. وقـد تم استبداله ً عمليا ً ونظريا بعقل معماري مستورد هو العقل المعماري الغربي؛ الذي بدأ يتسرب ً عمليا إلينا مع حملة نابليون على مصر (١٧٩٨ - ١٨٠١م)؛ ثم في أعمال رئيس بلدية باريس البارون هوزمان (١٨٩١ - ١٨٠٩م)، الذي عهد إليه الخديوي إسماعيل (١٨٩٥ - ١٨٣٠م) تخطيط وسط القاهرة الحالي، فنقل تجربته في تخطيط مدينة باريس، حيث قام بهدم معظم مبانيها، باستثناء المباني التاريخية والدينية، وأعاد تخطيطها ِّ مركزاً على توسعة الشوارع لأسباب أمنية. إلا أنه لم يهدم القاهرة كما فعل في باريس، بل خطط التوسعات الغربية للقاهرة المعروفة الآن بوسط القاهرة على النمط الباريسي محدداً ارتفاع المباني وطرازها. ثم أعقبه على تخطيط القاهرة المهندس المصري علي باشا ، ففتح الباب (١٣) مبارك (١٨٩٣ - ١٨٢٤م)، الذي تعلم في باريس، وتأثر بالعمارة الأوروبـيـة على مصراعيه للمعماريين الأوروبيين وبخاصة الطليان، والفرنسيون، والمهندسون المصريون (الذين تلقوا تعليمهم في باريس، حيث اصطحب نابليون معه ٢٠٠ طالب مصري للدراسة في (١١) انظر: العابد: «الفكر المعماري العربي الإسلامي: البداية - التشكيل - التكوين،» و«التأليف وأصالة العمارة العربية الإسلامية». (١٢) انـظـر: المصدران نفسهما على التوالي، وبديع العابد، «ثقافة المعماري،» المنتدى (منتدى الفكر العربي - ّعمان)، العدد ٢٠١٣) ٢٥٧)، ص ١١٨ - ٨٧. (١٣) انظر: علي مبارك، الخطط التوفيقيةالجديدة لمصر القاهرة ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة، ٧ ج (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب،١٩٨٠). ٣٨ / المستقبل العربي باريس في مختلف التخصصات. ثم أرسل محمد علي (١٨٤٨ - ١٨٠٥م) الطلاب المصريين للدراسة في باريس)، حيث عملوا ً جميعا على تغيير النسيجين المعماري والعمراني والمشهد الثقافي، والتربوي، والتعليمي، إلى ٍحد كبير، لمدينة القاهرة (ولباقي المدن المصرية). فتغيرت شخصيتها البصرية، وهويتها المعمارية، لتصبح أوروبية ً بدلا من شخصيتها وهويتها المعمارية العربية الإسلامية. ثم توالى تغيير النسيجين المعماري والعمراني، ومن ثم الشخصية البصرية والهوية المعمارية، لباقي المدن العربية كدمشق، وبيروت، والجزائر، وتونس، حتى شمل جميع المدن العربية. ثم تكرس ً عمليا استبدال العقل المعماري العربي الإسـلامـي بالعقل المعماري الغربي بتأسيس البلديات في المدن العربية، الـذي بدأ بالقدس سنة ١٨٦٣م؛ الأمـر الـذي ترتب عليه تغيير أحكام البنيان الإسلامية، وقانون البناء العثماني المنبثق من أحكام البنيان الإسلامية، بأنظمة وقوانين البناء الأوروبية. الأمر الذي أدى بدوره إلى شرعنة عملية الاستبدال، ومن ثم مأسسة العقل المعماري الغربي ً عمليا في الوجدان المعماري العربي؛ ليصبح ً واقعا ً معاشا، ّ ومسل ًما به، ً ومسكوتا عنه، وخارج نطاق التفكير والمساءلة. أي أصبح التسليم بتغيير العقل المعماري العربي الإسلامي أمراً ً واقعا. َّس هـذا الواقع ً نظريا في المناهج الدراسية المعمارية، إذ تأسس أول قسم للعمارة تكر سنة ١٨٥٨م في مدرسة المهندس خانة بالقاهرة، التي تأسست سنة ١٨١٦م، وكان المدرسون بها من الفرنسيين. ثم أعقبها تأسيس كلية الفنون الجميلة بالقاهرة ً أيضا سنة ١٩٠٨م، كفرع لكلية الفنون الجميلة بباريس (Ecole des Beaux Arts). ثم جامعة فـؤاد الأول سنة ١٩٠٨ وهي جامعة القاهرة ً حاليا. ثم أعقبها تأسيس معهد ليوناردو دافنشي (Leonardo da Vinci) الإيطالي بالقاهرة سنة ١٩٢٨م. ثم توالى إنشاء كليات العمارة في الجامعات المصرية وفي جامعات الوطن العربي، حتى بلغ عددها في الجامعات الأردنية ً حاليا ١٧ كلية. وجميع هذه الكليات في الوطن العربي ومنذ سنة ١٨٥٨ وحتى الآن، تتبنى المناهج المعمارية الغربية التي كرست العقل المعماري الغربي وغيبت العقل المعماري العربي الإسلامي؛ ولم ُت ِبق له حضوراً َّس ً طبقا لفلسفة التاريخ الغربي القائمة على: التحقيب إلا في مـادة تاريخ العمارة، التي تـدر التاريخي؛ وبمنهجية الاستشراق القائمة على التحليل الشكلي كما بينت ً سابقا. وهذا يعني أن العقل المعماري الغربي َتَم َ أس َس في الوجدان المعماري العربي على مدى قرنين من الزمان، ً عمليا، ً ونظريا، ً وتربويا، ً وتعليميا. فالمناهج أو الخطط الدراسية المعمارية الغربية تخلو ً شكلا ً ومضمونا، في الأعم الأغلب، من مادة العمارة الإسلامية، باستثناء مادة تاريخ العمارة. أي أنها ُحِّن ْطت ولـم تعد فاعلة، ٍ بعلم ورغبة وإرادة من أعضاء هيئات التدريس في الوطن العربي. وهذا يعود إلى طبيعة تأهيلهم الأكاديمي بالعقل المعماري الغربي، وإلى فقر ثقافتهم العربية الإسلامية، وضعف انتمائهم الحضاري. وهـذا يستدعي عملية ترميم شاملة: ً عمليا، ً ونظريا، ً وتربويا، ً وتعليميا، كما سأبين في ما يلي من عرض وتحليل. بديع العابد / ٣٩ ً: ترميم العقل المعماري العربي الإسلامي ثانيا لـقـد حــددت ثـلاثـة تـقـانـات لترميم الـعـقـل الـمـعـمـاري الـعـربـي الإسـلامـي وهــي: التجديد، والإضافة، والهدم وإعادة البناء. أما التقانتان الأولى والثانية فهما خاصتان بالترميم العملي، أي بترميم النسيجين المعماري والعمراني في المدن العربية. ١ - تقانة التجديد مـن المعلوم أنـه يتعذر هـدم مـفـردات (مـبـانـي) هـذيـن النسيجين واستبدالهما بمفردات عربية إسلامية. ولكن يمكن تجديد عناصرها المعمارية كواجهات المباني، والمداخل والأرصفة والنوافير وعناصر الـعـمـران الشجري بعناصر معمارية عربية إسـلامـيـة؛ خاصة أننا نشهد، في عمان، عملية تغيير طوعية من بعض ملاك العقارات لواجهات أبنيتهم بواجهات معدنية زادت وفاقمت عملية استغراب الشخصية البصرية والهوية المعمارية لمدينة عمان. إن تجديد العناصر المعمارية الظاهرة بعناصر معمارية إسلامية يعمل على استعادة الهوية المعمارية العربية الإسلامية في مدننا العربية والإسلامية. ٢ - تقانة الإضافة إن إضافة عناصر معمارية عربية إسلامية إلى مفردات النسيجين المعماري والعمراني تعمل على تغيير الشخصية البصرية لهذه المفردات، وتسهم في استعادة الهوية المعمارية العربية الإسلامية لها، ومن ثم للمدن العربية. وهذا بدوره يعمل على تغيير معالم البيئة الحاضنة لتصبح عربية إسلامية ً بـدلا من استغرابها الحالي. واستعمال هاتين التقانتين يتطلب تغيير الأنظمة والقوانين المعمول بها ً حاليا بالمدن العربية، واستبدالهما بأحكام البنيان الإسلامية مع الأخذ بعين الاعتبار مستجدات الحياة وتطورها. كما يتطلب إعداداً ً ثقافيا، أي إعادة تأهيل لمن سيسند إليهم عملية الترميم من معماريين، ومهندسين، ورسامين، وفنانين، وإداريين، وفنيين. إضافة إلى إعداد المجتمع ليس لقبول عملية الترميم فحسب، بل للمساهمة فيها. كما يتطلب إعـداد خطة عمل محكمة وشاملة تسهم فيها: البلديات، والنقابات، ووزارة الثقافة، ووزارة التربية والتعليم، ووزارة التعليم العالي، ووزارة الشؤون البلدية والقروية، وأعضاء هيئة التدريس والطلاب في الجامعات، والمؤسسات الإعلامية. ٣ - تقانة الهدم وإعادة البناء هذه التقانة خاصة بالجانب النظري، والتربوي، والتعليمي، إذ لا بد من هدم ِّ مكونات الـمـنـاهـج والـخـطـط الـدراسـيـة الـمـعـمـاريـة، لتحرير الـعـقـل الـمـعـمـاري الـعـربـي الإسـلامـي من الحضور الغربي فيه. وإعـادة بنائه بنظريات ومفاهيم العمارة الإسلامية التي أشـرت إلى بعضها ً سابقا. ٤٠ / المستقبل العربي إذاً هي عملية هدم واجتثاث للعقل المعماري الغربي السائد والمسيطر ً تربويا في المناهج والخطط الدراسية، وفي الوجدان المعماري الجمعي العربي؛ لتسهيل عملية إعادة بناء العقل ، وبمرجعية (١٤) المعماري العربي الإسلامي. ولقد عرضت لعملية التغير هذه في دراسة سابقة عربية إسلامية، بينت فيها بالتفصيل: البيئة الثقافية التي ينشأ فيها المعماري، والبيئة التعليمية التي يتم فيها تأهيله ً مهنيا وتشكيله ً ثقافيا. وعرضت لآلية للتعليم الجامعي. ولتأهيل أعضاء هيئة التدريس ولثقافاتهم. وبينت ماهية التأهيل المهني والثقافي ودورهما في تحديد دور المعماري في المجتمع، وتشكيل هويته المعمارية وشخصيته الحضارية، ونتاجه المعماري، التي تشكل مجتمعة هويتنا المعمارية. كما بينت في الدراسة عجز أعضاء هيئة التدريس عن إحـداث التغيير الـلازم، وتحرير العقل المعماري العربي الإسلامي من سطوة وسيطرة العقل المعماري الغربي. وعزيت ذلك إلى استحواذ منهجية المستشرقين التاريخية على عقولهم؛ وإلى عدم قدرتهم على التحرر من سيطرتها؛ وإلى عدم رغبتهم بالاعتراف بجهود غيرهم في تأصيل العقل المعماري العربي الإسلامي؛ وإلى عجزهم عن إحداث تغيير جذري في المناهج الدراسية، في حالة توظيف العقل المعماري العربي الإسلامي. وبينت أن جميع هذه المعوقات يمكن حلها بتطبيق آلية التعليم التي عرضت لها في الدراسة السابقة. كما بينت ضرورة أن تكون إدارات الجامعات ملتزمة وقادرة على إعادة تأهيل أعضاء هيئات التدريس. وأضيف هنا أن إعادة تأهيل أعضاء هيئة التدريس كجزء من عملية الترميم يمكن أن يتم بتوجيه البحث العلمي إلى مواضيع العمارة الإسلامية. وبتكثيف عقد المؤتمرات عن العمارة الإسـلامـيـة، وإلــزام أعـضـاء هيئة الـتـدريـس بالمشاركة بـهـا. وباستضافة المختصين بالعمارة الإسلامية، على قلتهم، لإلقاء محاضرات وتنظيم حلقات نقاشية بحضور الطلاب. كما يمكن تنظيم دورات تأهيلية لأعضاء هيئة التدريس لإعادة تشكيل وعيهم بالمكون الفكري المعماري للعقل المعماري العربي الإسلامي. إن إعــادة التأهيل كجزء مـن عملية الترميم أصبحت ضــرورة ملحة، وبخاصة أن بعض أعضاء هيئة التدريس لا يعرفون تخصصهم الأكاديمي! كما أن بعضهم لا يعرفون ماهية المواد َّس كرسم هندسي. كما أنهم لا يعرفون أنواع الخطوط ُ َدِّر ُس َونها. فالرسم المعماري يدر التي ي المستعملة فـي الـرسـم الـمـعـمـاري، فسماكة الـخـطـوط المستعملة فـي الـواجـهـات، هـي نفسها المستعملة في القطاعات، وفي التفاصيل المعمارية، والأبـواب، والشبابيك؟ ومبادئ التصميم المعماري تختزل في تنظيم الفتحات في الواجهات، أو في إحداث التوازن في الكتل المكونة للعمل المعماري، أمـا باقي المبادئ فـلا وجـود لها. ويصبح إعــادة التأهيل أكثر ً إلحاحا في مواد تاريخ العمارة، ونظريات العمارة، والتصميم المعماري. فتاريخ العمارة يدرس بمنهجية المستشرقين القائمة على التحليل الشكلي، أي كتاريخ أشكال، وليس كتاريخ أفكار. وبمنهجية التحقيب التاريخي، ً طبقا لفلسفة التاريخ الغربي التي تقسم التاريخ إلى حقب، وتجعل لكل (١٤) انظر: العابد، «ثقافة المعماري». بديع العابد / ٤١ (١٥) القائمة على التواصل حقبة تاريخية طــرازاً ً مـعـمـاريـا؛ ً خـلافـا لفلسفة الـتـاريـخ الإســلامــي التاريخي والدروس والعبر، والتفكر والتأمل، والتنوع داخل الوحدة. واللافت للنظر هنا أن هذه العناصر الأربعة مرتبطة بمنهجيات التصميم المعماري، إضافة إلى أن تدريس تاريخ العمارة، كتاريخ فكر، مرتبط بمادة نظريات العمارة التي تشكل عصب مادة التصميم المعماري، التي بدورها تشكل العمود الفقري للتأهيل المهني لطلاب العمارة ليصبحوا مهندسين معماريين. هذه المواد الثلاث تشكل المكون الرئيسي للعقل المعماري الغربي المسيطر والمهيمن في المناهج الدراسية المعمارية، وفي الوجدان المعماري الجمعي العربي. ونتاجها، وتحديداً التصميم المعماري، هو الـذي يشكل الشخصية البصرية، ومـن ثم الهوية المعمارية لمدننا العربية، فـإعـادة التأهيل هنا ضـرورة وطنية وقومية، لأن الهوية المعمارية جـزء من الهوية ِّرة عن الهوية الوطنية والقومية لنا الثقافية ِّ والمكون الرئيسي فيها؛ والهوية الثقافية هي المعب كعرب ومسلمين. أمـا عملية إعــادة التأهيل فـي مـادة تـاريـخ الـعـمـارة فيجب ً ابـتـداء أن تعمل على تصحيح المفاهيم التاريخية، كالمفهوم الغربي لنشأة العمارة، فهو مفهوم خاطئ لأنه يعتبر أن أصل العمارة: «الكوخ البدائي، وخيمة الاجتماع، والهيكل المزعوم». إن فرض حضور يهودي في نشأة العمارة ً ممثلا بخيمة الاجتماع، والهيكل المزعوم، مفهوم ُم ْخَتَلق. فالخيمة لا تمثل عمارة ً أصلا، والهيكل المزعوم قام ببنائه، كما يزعم التناخ (العهد القديم)، مهندس معماري فينيقي اسمه حيرام، من مدينة صور في لبنان، وتاريخ بنائه المزعوم يعود إلى القرن العاشر قبل الميلاد، (ولقد فندت هذا الزعم في دراسـة بعنوان: الهوية المعمارية لمدينة القدس/قبة الصخرة أم الهيكل المزعوم؟). بينما عمارة حضارات ما بين النهرين السامية العربية تعود إلى القرن ٤٠ قبل الميلاد؛ كما أن عمارة الحضارة المصرية القديمة تعود إلى القرن ٣٠ قبل الميلاد؛ والعمارة اليونانية نفسها لا يتجاوز حضورها في التاريخ القرن ٥ قبل الميلاد. فلا يجوز تزييف وعي الطلاب بهذه المعلومات الملفقة، كما لا يستقيم في العقل السليم أن يردد أعضاء هيئة التدريس هذه المعلومات دون مساءلة ونقد. كما أن هناك حضوراً مؤكداً لكل من عمارة حضارات ما بين النهرين والعمارة المصرية القديمة في العمارة العربية الإسلامية، ليس فقط على مستوى الشكل وتواصل وجـود بعض الـزخـارف المعمارية لـهـذه الـحـضـارات فـي مـفـردات الـعـمـارة الإسـلامـيـة، ولـكـن فـي النظريات ؛ وفي شريعة حمورابي (١٦) الهندسية التي ابتدعها البابليون كنظرية المثلث القائم الزاوية وغيرها التي نرى حضوراً لها في أحكام البنيان الإسلامية. وكذلك في المقياس الإنساني الذي ابتدعته الحضارة المصرية القديمة أي قبل الروماني فتروفيوس (القرن ١ق.م.) بثلاثين ً قرنا الذي نقله (١٥) انظر: العابد، «الفكر المعماري العربي الإسلامي: التفسير التاريخي». (١٦) انظر: العابد: «الفكر المعماري العربي الإسلامي: البداية - التشكيل - التكوين،» و«التأليف وأصالة العمارة العربية الإسلامية». ٤٢ / المستقبل العربي عن اليونان الذين نقلوه بدورهم عن المصريين القدماء. وعرض له إخوان الصفا (القرن ٤هـ) وعبد اللطيف البغدادي (٦٢٩ - ٥٧٥هــ/١٢٣١ - ١١١٢م) أي قبل الفنان الإيطالي ليوناردو دافنشي (١٥١٩ - ١٤٥٢م) بثلاثة قرون. كما يجب التركيز على حضور العمارة العربية للعرب البائدة التي وصلت إلينا من خلال الآثار الباقية في مدائن صالح وغيرها، ومما سجل في الشعر الجاهلي؛ وكذلك عمارة اليمن التي وثقها الهمذاني في الجزء ٨ من كتابه الموسوم بـ الإكليل. فإظهار التواصل بيننا كعرب ومسلمين وبين أسلافنا من الساميين العرب، والمصريين َة، َّب القدماء، والعرب البائدة، والعرب العاربة في اليمن؛ حقيقة تاريخية وثقافية وعلمية ُم َغي وهـي أكبر مـن أن تتسع لها هـذه الـدراسـة، وقـد ذكـرت مـا سبق على سبيل المثال لا الحصر. فـإعـادة التأهيل تستوجب استحضارها وتداولها ً معرفيا، أي توظيفها في المنهج الـدراسـي. فنهدم بهذا التوظيف عنصراً من مكونات العقل المعماري الغربي، ونبني ً مدماكا أو مداميك في العقل المعماري العربي الإسلامي عند أعضاء هيئة التدريس، وعند طلاب العمارة، يعمل ٍ كمحفز معرفي ثقافي، وتربوي تعليمي. والأمر ينسحب على نظريات العمارة، فبعد تكريس حضور العمارة الكلاسيكية (اليونانية والـرومـانـيـة) «ذات ِّ الـمـكـون الـيـهـودي المسيحي»، كما تـزعـم الـمـصـادر الـغـربـيـة، فـي المنهج الدراسي المعماري، يبدأ تكريس حضور نظريات العمارة الحديثة بمدارسها المختلفة، ثم ما بعد الحداثية، ثم لاعمارة نزعة التفكيك اليهودية التقويضية التدميرية الهدمية. واللافت للنظر هنا أن التركيز في تدريس هذه المواد يتم بالوسائل البصرية وليس بالمضامين الفكرية، فيتم عرض شرائح لأعمال بعض المعماريين الأوروبيين لتكون ً أنموذجا للطلاب لتقليدها في مادة التصميم المعماري. وهذا تكريس للتبعية الثقافية، وتعزيز لحضور العقل المعماري الغربي في الوجدان المعماري العربي والإسلامي؟ وإقصاء للعقل المعماري العربي الإسلامي، ويعود السبب في عملية الإقصاء لعدم معرفة أعضاء هيئة التدريس لمكونات الأخير النظرية الفكرية، والعملية التطبيقية، الأقدم ً زمنيا والأعمق ً معرفيا. ولنعرض، على سبيل المثال لا الحصر، لمفهوم الوظيفية في العمارة الحديثة، الـذي لم ُتداول ً معماريا إلا في (١٧) إلا في منتصف القرن ١٩ الميلادي، ولم ي يعرف في الثقافة الغربية عشرينيات القرن الماضي، على الرغم من ذكر المعماري الروماني فتروفيوس لها القرن الأول الميلادي. بينما يعود حضورها في الثقافة العربية وتداولها ً معماريا إلى العصر الجاهلي، ونجد ذلك في شعر حكيم العرب الأفوه الأودي: ــــم ٌ ــــد َـــنـــى إلا لــــه َع َ ُ ُ أوتــــــاد ـــبـــت ــــمــــاد إذا لــــم تُ ْ ــــــــر َس ُ والــــبــــيــــت لا ي ولا ِع َ ِ ٌ ــــن بــلــغــوا َ الأمـــــر الــــذي كــــادوا فـــــــإن َّ تــــجــــم َ ــــع ٌ أوتــــــــــــاد ٌ وأعـــــمـــــدة وســــاك (١٧) انظر: عرفان سامي، نظريةالوظيفة في العمارة (القاهرة: دار المعارف، ١٩٦٦)، ص ٤٦ - ٤٢. بديع العابد / ٤٣ الـــعـــقـــل الـــمـــعـــمـــاري الــعــربــي الإسـلامـي هو الأرقـى في العالم، لأنــه مـــورس مـنـذ بـدايـتـه بـأرقـى منهجيات التصميم الـمـعـمـاري، وهي منهجية الأحكام. (١٨) في عيون الأخبار: كما عرض لها ابن قتيبة (ت ٢٧٦هـ/٨٨٩م) «قال يحيى بن خالد لابنه جعفر حين َّ اختط داره ليبنيها: هي قميصك فإن شئت ِّوسعه ِّقه». وإن شئت َفضي (١٩) في لسان العرب: كما عرض لها ابن منظور (ت ٧١١هـ/١٣١١م) «مثل من وضع اللفظ المفرد مثل من بنى ً صرحا لينعم فيه ويقصد، فقدر [صمم] من قبل البناء كل ما لزم من المداخل والمخارج، والمرافق والمدارج، ومنافذ النور والهواء والمناظر المطلة على الـمـنـارة الفيحاء، وهـكـذا أتـم بـنـاءه كما قـدره وشــاءه، ومثل مـن عمد إلـى النحت والتلفيق، مثل من بنى من غير تقدير ولا تنسيق، فلم يفطن إلى ما لزم لمبناه إلا بعد أن سكنه، وشعر بأنه لا يصيب فيه سكنه، فتدارك ما فرط منه تدارك من لهوج فعجز، فجاء بناءه سداداً من عوز». والأمثلة على مفهوم الوظيفية كثيرة، ولكن كما ذكرت فليس الغرض هنا الحصر بل التنويه والتذكير، فلماذا إذاً لا تكون المرجعية عربية؟ هل هو عدم المعرفة؟ أم التنكر للعمارة العربية الإسلامية؟ أم الاستسلام الثقافي؟ أم لهذه الأسباب ً جميعا؟ ومـا ينسحب على الوظيفة ينسحب على كل مكونات نظريات العمارة التي ذكـرت بعضها في بـدايـة هـذه الـدراسـة، فنظريات الـعـمـارة الإسلامية أقـدم ً زمنيا، وأعـمـق ً معرفيا، مـن نظريات العمارة الغربية. وتأتي الطامة الكبرى في تدريس نظريات العمارة من تدريس َلاعمارة نزعة التفكيك اليهودية التقويضية الـتـدمـيـريـة الـهـدمـيـة كـآخـر صـرعـة في الـعـمـارة. وتـتـعـزز هــذه الـطـامـة بتقليدها، وإنـتـاج أشكالها (غير المنتظمة التكوين، والمبعثرة العناصر، والفاقدة لوظيفتها ودلالتها الشكلية والجمالية، والمقوضة للبنى والتراكيب المعمارية، المتواضع والمتفق عليها في كل الحضارات، والمعبرة عن عدمية مطلقة)، في مادة التصميم المعماري. وعلى الرغم من عرضي لجذورها الدينية التلمودية القبالية الـيـهـوديـة، ولأغـراضـهـا ومـرامـيـهـا التقويضية التدميرية الهدمية، والمرتبط انتظام تكوينها بنزول الهيكل المزعوم، في دراسـة معمقة وموثقة ً توثيقا ً علميا ، ونشرتها في مجلات علمية رصينة، وفي مجلة المهندس الأردنـي، وعلى الشابكة، (٢٠) ً دقيقا (١٨) انظر: أبو محمد عبد الله بن مسلمبن قتيبة، عيون الأخبار، ٤ ج (بيروت: دار الكتاب العربي، [د. ت.])، ج ١، ص ٣١١. (١٩) انظر: ابن منظور، لسان العرب، ج ٥ - ١. (٢٠) انظر: العابد، «نزعة التفكيك في العمارة وجذورها التلمودية والقبالية اليهودية». ٤٤ / المستقبل العربي َّس في الجامعات العربية في مادتي نظريات وعرضت لها في محاضرات؛ إلا ّأنها ما زالت تدر العمارة والتصميم المعماري، َ وتمارس ً عمليا. وهـذا يوضح أنـه لا يـوجـد مـا يقلق وعـي أعـضـاء هيئة الـتـدريـس، ولا المعماريين العرب، الحضور اليهودي في العقل المعماري الغربي السائد والفاعل في الوجدان المعماري الجمعي العربي الإسلامي. واللافت للنظر أنه منذ نشأة أول قسم عمارة سنة ١٨٥٨م في القاهرة وحتى يومنا الحاضر لم توظف مفاهيم ومنهجيات التصميم المعماري العربي الإسلامي في تصميم وإنتاج العمارة العربية الإسلامية، ً علما أنها ومنذ نشأتها مورست بأرقى منهجيات التصميم المعماري وهي منهجية الأحكام، كما بينت ً سابقا؟ ـــد عليه ُ ِع َّ فالتصميم الـمـعـمـاري الــذي نـشـأ وأ َّج منذ سنة ١٨٥٨م العقل المعماري العربي تـدر وحـتـى الآن مــن: الـعـمـارة الكلاسيكية الأوروبــيــة، فـالـعـمـارة الـحـديـثـة بـمـدارسـهـا المختلفة، فعمارة مـا بعد الـحـداثـة، َ ولاعـمـارة نزعة التفكيك؛ ً وحاليا يـروج لما َّ يسمى العمارة الخضراء، التي ليس لها مـن اسمها نصيب، وهـي ليست أكـثـر مـن ترويج للمنتجات الصناعية لبعض شـركـات مــواد البناء. فالتصميم البيئي الحقيقي، أو الأخضر كما يدعى ً حـالـيـا، يتم بتوظيف نظريات ومفاهيم التصميم البيئي العربية الإسلامية التي استنها الطبيب أبو زيد البلخي (٣٢٢ - ٢٣٦هـ/٩٣٤ - ٨٥٠م). وسأكتفي بهذا القدر في عرضي لمواد المنهج الـدراسـي المعماري، لأخلص إلـى حاجة العقل المعماري العربي إلى عملية ترميم شاملة وبتقانة الهدم وإعـادة البناء. وهنا يأتي دور وزارة التعليم العالي والجامعات في إحداث وقيادة عملية الترميم. ً علما أن تجربتي الشخصية في التدريس تؤكد أن عملية الترميم تحتاج إلى ثورة في العقل التربوي والتعليمي العربي، وهذا بـدوره يحتاج إلى معجزة، لأن العقل المعماري العربي الإسلامي هو جزء من العقل التربوي َب ً شكلا ً وموضوعا. والتعليمي والثقافي الشامل المستغر َّس ولأدلــل عـلـى ذلــك سـأذكـر واقـعـة حصلت بيني وبـيـن رئـيـس الـجـامـعـة الـتـي كـنـت أدر فيها. عندما التحقت بالجامعة عهد لي تدريس مـواد: الرسم المعماري لطلاب السنة الأولـى، والتصميم المعماري لطلاب السنة الثالثة، وفيما بعد للسنة الرابعة، والتصميمات التنفيذية، والعمارة الإسلامية. وكـان مستوى الطلاب في التصميم ً ضعيفا جـداً جـداً، فهم لا يعرفون من مـبـادئ التصميم ًشيئا، وأن التصميم هـو فـن تطويع البيئة للاستعمال، أي أنهم لا يعرفون الوظيفية، ولا مفاهيم التصميم البيئي، ولا يعرفون ًشيئا عن الهيكل الإنشائي، ولا قواعد الرسم المعماري؛ وكل ما يعرفونه في التصميم هو إنتاج الأشكال غير المنتظمة، المبعثرة العناصر، وغير المكتملة التكوين، أي إنتاج أشكال معمارية عدمية على شاكلة َلاعمارة نزعة التفكيك. إن إضافة عناصر معمارية عربية إسـلامـيـة إلـى مـفـردات النسيجين الـمـعـمـاري والـعـمـرانـي تعمل على تغيير الشخصية الـبـصـريـة لهذه الـمـفـردات، وتـسـهـم فـي اسـتـعـادة الـــهـــويـــة الــمــعــمــاريــة الــعــربــيــة الإسلامية لها. بديع العابد / ٤٥ وكانت النتيجة عدم قدرة الطلاب على إنتاج تصميم انتفاعي تتوافر فيه أبسط مبادئ التصميم المعماري، بسبب ضعف تأسيسهم، وبسبب التبعية الثقافية. وكانت درجـات نصفهم ً تقريبا بين (٥٠ و٥٥) والباقي بين (٦٠ و٦٥). فاشتكى بعضهم إلـى رئيس الجامعة وادعــوا أنني أطالبهم «بتصميم عمارة إسلامية»، وعندما قابلت رئيس الجامعة أوضحت له أنني لم أطالبهم بعمارة إسلامية ً إطلاقا لعدم معرفتهم بمكونها الفكري والفني والعملي؛ وكل ما طالبتهم به هو توظيف مبادئ التصميم المعماري، المتواضع عليها في كل الحضارات باستثناء لاعمارة نزعة التفكيك، كالوظيفية والهيكل الإنشائي ونظريات التصميم البيئي؛ فاحتد رئيس الجامعة ونفى وجود عمارة إسلامية!؟ فقابلته بنفس الحدة بوجود عمارة إسلامية، وأنها أعم وأشمل عمارة في العالم في تنوع مباحثها ومواضيعها، وأعمق عمارة في فكرها، وأرقى عمارة في ممارستها، مع تأكيدي بعدم مطالبتهم بها لجهلهم بمكوناتها، فتراجع وقال لا تفهمني خطأ. أمـا مـادة العمارة الإسلامية فقد درستها كنظريات عـمـارة لطلاب السنة الـرابـعـة، الذين اعتقدوا أنها استكمال لمادة تاريخ العمارة التي درسوها ً سابقا، على الرغم من طرحي ً وصفا ً مفصلا لمحتوى المادة، ألحقته بالمنهج الدراسي قبل التسجيل، وتفاعل الطلاب ً إيجابيا مع الـمـادة فـي بـدايـة الأمــر؛ وعندما طالبتهم بعمل نـمـوذج لـوحـدة القياس العربية وهـي الــذراع، الـذي أقـره عمر بن الخطاب وختمه بالرصاص من الجانبين لـذرع سـواد العراق، رفضوا عمل التمرين، وتقدموا بشكوى لرئيس الجامعة. ً وعبثا حاولت إقناع رئيس الجامعة بقيمة التمرين المعرفية والتربوية، كأول وحدة قياس تختم بالرصاص في تاريخ الحضارات. أي قبل وحدة القياس الفرنسية وهي المتر، المحفوظ بمتحف اللوفر بباريس؛ وقبل وحدة القياس البريطانية وهي الياردة، المحفوظة بالمتحف البريطاني في لندن. هذا في ما يتعلق بقيمتها المعرفية، أما قيمتها التربوية فتتجلى في توعية الطلاب بأنهم ينتسبون إلى حضارة راقية لها منجزاتها العلمية المتقدمة ً زمنيا ً ومعرفيا على الحضارة الغربية التي ينشؤون عليها، ولا يعرفون غيرها. ٌَق معرفي للجامعة، وعملية تمكين ثقافي للطلاب، َّنت لرئيس الجامعة أن عمل التمرين َسب كما بي لكن هذه الأمور لا تعنيه، ولم تقلق أو تستفز وعيه الثقافي، ولا التربوي، ولا التعليمي؛ وأن كل ما يعنيه هو إرضاء الطلاب والاحتفاظ بهم بالجامعة وعدم تحويلهم إلى جامعة أخرى. َِمُهم بأن درجة الصفر التي وضعتها لهم ُ ْعل ُ َط ْمئن الطلاب، وأن ي فأوعز إلي عميد الكلية أن ي لامتناعهم عن تقديم التمرين َسُتلغى. وسيتم احتساب درجة الامتحان النهائي من ٧٠ ً بدلا من ٥٠، ً خلافا لما هو محدد بوصف المادة. كما أوعز للعميد بأن يشكل لجنة لإقناعي بضرورة إلغاء الصفر واحتساب درجة الامتحان النهائي من ٧٠، ولكنني رفضت؛ فما كان من رئيس الجامعة إلا أن ألغى الامتحان النهائي وأسقط المادة عن الطلاب، دون أن يرد لهم رسوم تسجيلها!؟ ُ ْسَتَفّزوا عندما طلب ِّ مدرس مادة تاريخ العمارة في الجامعة نفسها والمأساة أن الطلاب لم ي ُ َسَت ْفز كما منهم عمل مجسم للهيكل المزعوم وعندما واجهت رئيس الجامعة بهذه الحقيقة، لم ي ُقلق وعيه الحضور اليهودي في المنهج َّ استفزته العمارة الإسلامية التي أنكر وجودها! ولم ي الـدراسـي وتطبيقاته العملية! وكـان رد فعله أن اكتفى بالقول بأنه غير مرتاح لعمل مجسم ٤٦ / المستقبل العربي للهيكل المزعوم! فهل يستقيم بالعقل السليم أن يسمح رئيس الجامعة بالتمكين الثقافي لعمارة مزعومة، ِّ ولعدونا الأول والتاريخي، وأن يمنع حدوث هذا التمكين لعمارة الثقافة الإسلامية التي ينتسب إليها وينكر وجودها! إن سلوك رئيس الجامعة يثير تساؤلات عديدة وسأكتفي بالآتي: ألسنا بحاجة إلى إعادة النظر بالقيادات التربوية؟ أما آن لنا أن نتخلص من عقدة الإحساس بالدونية أمام الغرب؟ أما آن لنا أن نحترم ثقافتنا، ونستعيد وعينا المستلب، ونستحضر منجزاتنا العلمية والثقافية، ونوظفها في مناهجنا الدراسية وحياتنا اليومية؟ وأخيراً، ألسنا بحاجة إلى عملية ترميم شاملة للعقل العربي التربوي، والتعليمي، والثقافي، قبل أن نبدأ بترميم العقل المعماري العربي الإسلامي!؟ وأجيب إن إعادة التأهيل للقيادات التربوية والتعليمية، أصبح أكثر ً إلحاحا من تأهيل أعضاء هيئة التدريس، لأن فاقد الشيء لا يعطيه. ولعمل ذلك، هل نحتاج إلى قرار سياسي؟ أم نحتاج إلـى وزيـر تعليم ٍ عـال فـدائـي، يمثل المبادئ والقيم التربوية والتعليمية وليس المصالح؟ ْ أم نحتاج إلى رأي عام ضاغط ُومطالب بعملية ترميم شاملة للثقافة السائدة في مجتمعنا يقوده الإعلام؟ وإن كنا لا نعدم ً أصواتا إعلامية تتلمس المشكلة، وتدعو إلى التمكين الثقافي العربي في الصحافة المحلية. وأجزم أنه لن تكون لنا شخصية وطنية وهوية ثقافية إذا لم نبادر إلى عملية ترميم شاملة لمكونات العقل العربي، بما فيها: دين الأمة، ولغتها، وآدابها، وتاريخها. ُقلق وعيهم أما باقي التساؤلات فأترك الإجابة عنها للتربويين والمثقفين، الذين يمكن أن ي أوضاعنا التربوية والتعليمية والثقافية. وأمـا ترميم العقل المعماري العربي الإسلامي فعليه انتظار المعجزة؛ وهـي حـدوث ثـورة في العقل التربوي والتعليمي العربي، أو تعيين الوزير ـدَد الفدائي، أو صـدور القرار السياسي. ونحن بالانتظار نحمل معاول الهدم ُونِعُد أدوات َو ُع َ البناء، مستذكرين قول الشاعر فخري البارودي: لـــــــنـــــــا مـــــــدنـــــــيـــــــة ســــلــــفــــت ســــنــــحــــيــــيــــهــــا وإن دثــــــــرت ولـــــــــو فـــــــي وجـــــهـــــنـــــا وقــــفــــت دهـــــــــــــاة الإنـــــــــــــس والـــــــجـــــــان خاتمة خصصت هذه الدراسة لموضوع ترميم العقل المعماري العربي الإسلامي، لتخليصه من نفوذ الفكر المعماري الغربي، الذي ألغى حضور الأول ً شكلا ً وموضوعا، فعرضت الدراسة لتميز العمارة الإسلامية عن العمارة الغربية، وحـددت هدفها وهو استبدال العقل المعماري الغربي َّب َّ والمحنط لاستعادة السائد في جامعاتنا وممارساتنا بالعقل المعماري العربي الإسلامي المغي حضورنا المعماري بين الحضارات العالمية. ثم عرضت الدراسة لمفهوم العقل، وبينت موقع العقل العربي الإسلامي فيه كما جاء بالمفهوم القرآني للعقل كأداة إدراكية وكمتحصل معرفي ومنتج فكري وبينت أن العقل المعماري العربي الإسلامي هو عقل شمولي ومكتمل، وأنه الأرقى َّب فيها العقل المعماري الغربي إلى العمارة في العالم. ثم عرضت الدراسة للكيفية التي تسر العربية الإسلامية ً عمليا ً ونظريا. ثم عرضت لكيفية ترميم العقل المعماري العربي ً عمليا ً ونظريا بديع العابد / ٤٧ ً وتربويا ً وتعليميا. فاقترحت َ تقانتي ترميم هما: التجديد والإضافة للجانب العملي؛ وتقانة الهدم وإعـادة البناء للجانب النظري التربوي والتعليمي. وبينت الدراسة آلية عمل كل منها. وركزت على هدم المنهج الدراسي الغربي وإعادة بناء منهج دراسي عربي. كما عرضت الدراسة لإعادة تأهيل أعضاء هيئة التدريس وتثقيفهم بمكونات العقل المعماري العربي الإسلامي واقترحت الدراسة عدة طرق لإعادة التأهيل. ثم عرضت الدراسة للمواد التي تشكل ِّ مكون العقل المعماري العربي الإسلامي، والعمود الفقري للمنهج الـدراسـي. وطالبت الـدراسـة بالتخلص من َّس بها الـمـفـاهـيـم والـمـنـهـجـيـات الـغـربـيـة الـتـي تــدر هــذه الــمــواد. كـمـا بـيـنـت ضــرورة تـوظـيـف فلسفة الـتـاريـخ الإسـلامـي فـي الـتـدريـس، وعـرضـت لبعض محتوى هـذه الـمـواد مـن مفاهيم معمارية، فبينت أن أسبقيتها التاريخية وعمقها المعرفي العربي الإسـلامـي. ثـم بينت سبب عـزوف أعـضـاء هيئة التدريس عـن توظيف هـذه الـمـواد فـي المنهج َّع وعيهم منذ تأسيس أول كلية عمارة سنة الدراسي، وهو تأهيلهم الأكاديمي الغربي الذي طو ١٨٥٨م وحتى الآن، وجعله لا يقلق ولا يكترث للوجود اليهودي في المنهج الدراسي، ثم عرضت لتجربتي في التدريس وبينت حالة الاستغراب التي تعيشها إدارة الجامعة، ونوعية الطلاب، وطبيعة تأهيلهم الأكاديمي، وانعكاسه على سلوكهم. ثم طرحت مجموعة تساؤلات، وخلصت إلى أن ترميم العقل المعماري العربي الإسلامي مرتبط بترميم العقل العربي الإسلامي الشامل وأنـه يحتاج إلـى معجزة لحدوثه وهـي لن تتم إلا بقرار سياسي، أو بتعيين وزيـر تعليم ٍعال فدائي، أو بجعل عملية الترميم الثقافي قضية رأي عام يقودها الإعلام

 

 

http://www.caus.org.lb/PDF/EmagazineArticles/mustaqbal_441_badi3_3abed.pdf