الثقافة هي الإنجازات غير المادية لشعب أو لامة خلال زمن معين وفي مكان معين؛ وتشمل الثقافة العادات والتقاليد والقيم والمعتقدات والإنتاج الأدبي والفني بكافة أشكاله، وطرق التفكير ونمط الحياة والفنون المعمارية، وهذا يجعل الثقافة مُلكاً للشعب الذي أنتجتها، تميزه عن غيره من الشعوب. أما الحضارة فهي الإنجازات المادية وغير المادية التي ينجزها شعب أو امة خلال عصر من العصور كعصر الزراعة. لذلك تشمل الحضارة إلى جانب الانجازات الثقافية العلوم والتكنولوجيا بكافة أشكالها، ونمط الإنتاج الاقتصادي، ما يجعل الثقافة جزءاً أساسياً من حضارة عصرها، ترتبط بها بعلاقة تأثير متبادل، ما يجعل كل تطور ثقافي يؤثر في مسيرة الحضارة، وكل تطور حضاري يؤثر في مسيرة الثقافة. وفيما تعتبر العادات والتقاليد وطرق التفكير والمعتقدات أهم مكونات الثقافة، يعتبر نمط الإنتاج الاقتصادي أهم مكونات الحضارة.

 

تتطور الحضارة وتنتقل من مرحلة لأخرى اكثر تقدماً نتيجة لحدوث تغير أساسي في نمط الإنتاج السائد في المجتمع. أما الثقافة فتتطور نتيجة لفعل أفكار ونظريات ومعتقدات جديدة، أو تحت تأثير نمط إنتاجي جديد يفرض عليها أن تتطور. لذلك من الصعب أن تتطور الثقافة في معزل عن إطارها الحضاري بجوهره الاقتصادي، ومن الأصعب أن تتطور الحضارة في معزل عن الثقافة الشعبية. وهذا يعني ان حدوث تغير أساسي في نمط الإنتاج الاقتصادي يتسبب في خلق علاقات إنتاج جديدة وعناصر ثقافية تتجاوز العناصر القديمة وتحل محل اغلبها؛ ما يجعل كل حضارة تفرز ثقافتها الخاصة بها والتي تأتي بالضرورة منسجمة مع النمط الإنتاجي السائد في زمنها، ومتوافقة مع علاقات الإنتاج التي يخلقها نمط الإنتاج المعني. ومع أن لكل مجتمع ثقافته الخاصة به بغض النظر عن مستوى تطوره الحضاري، إلا أن كل تطور حضاري يقوم بفرض منطقه على الثقافة السائدة في المجتمع، وإجبارها على التطور بعيداً عن جذورها التقليدية. ولما كانت الثقافة تميل بطبيعتها إلى الثبات والاستمرارية، وذلك بدعوى الحفاظ على "الأصالة والتراث"، فان صفة النزاع، لا التعاون، تغلب على علاقة الثقافة بالحضارة، خاصة خلال مراحل الانتقال الحضارية.

الاطار التاريخي للتطور الثقافي

مرتّ الإنسانية خلال تاريخها الطويل على هذه الأرض بأربعة مراحل حضارية رئيسية: حضارة الرعي والتنقل القبلية، حضارة الزراعة، حضارة الصناعة، وحضارة ما بعد الصناعة التي أطلقتُ عليها اسم "حضارة المعرفة". وفيما استمرت الحضارة الأولى (العصر القبلي) نحو ثلاثين آلف سنة قبل الانتقال إلى حضارة الزراعة، استمرت حضارة الزراعة نحو عشرة آلاف سنة قبل الانتقال إلى حضارة الصناعة، أما حضارة المعرفة التي لا تزال في دور التكوين، فقد بدأ تطورها بعد مرور نحو 250 سنة على عصر الصناعة. ولما كان انتقال عصر الصناعة إلى عصر المعرفة قد بدأ في منتصف التسعينات من القرن العشرين، فإن من المتوقع أن يتبلور عصر المعرفة بثقافة واقتصاده ومجتمعه المميز في حوالي عام 2025، أي بعد مرور نحو 30 سنة على بداية مرحلة الانتقال الحضارية من عصر الصناعة إلى عصر المعرفة. 

قامت كل حضارة على أكتاف نمط إنتاجي اقتصادي جديد فرض على النمط الإنتاجي القديم ان يتطور، وأن يتنازل في الوقت ذاته عن أهم خصائصه ومعطياته التقليدية، بما في ذلك علاقات الإنتاج الاجتماعية. وهذا فرض على الثقافة ان تتطور وتتنازل مرغمة عن جلّ خصائصها ومعطياتها المميزة. ويشير التاريخ إلى أن كل مجتمع رفض التطور بالقدر الكافي وفي الاتجاه المطلوب من أجل التكيف مع النمط الإنتاجي الجديد حكم عليه الزمن بالتخلف عن العصر وعن الشعوب والدول التي تعيش في ذلك العصر. ويعود السبب في ذلك إلى طبيعة المسيرة التاريخية التي تصر على السير إلى الأمام دون تردد، غير معنية بالحفاظ على ثقافة أو تقليد أو علاقة اجتماعية أو شعب.

عندما بدأ الإنسان، قبل نحو مئة ألف سنة يُكوّن تجمعات صغيرة تعيش على الصيد وجمع الثمار والأعشاب متنقلاً من مكان لآخر، كان عليه أن يطور أدوات للتواصل والتفاهم بين أعضائه وتنظيمهم، ما جعل الثقافة تبدأ في التطور. ولما كان من غير الممكن قيام مجتمع من دون عادات وتقاليد وقيم ولغة مشتركة، فان تلك العناصر أصبحت تشكل جوهر الثقافة وعمادها الأساسي في العصر القبلي. وبسبب اختلاف ظروف البيئة الطبيعة والاجتماعية من مكان لآخر، فان الثقافات اختلفت قليلاً من مكان لأخر ومن شعب لأخر. لكن سيادة نمط إنتاجي واحد خلال تلك الفترة، وهو نمط الإنتاج القائم على الصيد والرعي، جعل كل الثقافات التي أفرزتها حضارة ما قبل الزراعة متشابهة إلى حد كبير. وتشير السجلات التاريخية والحفريات الأثرية وعلم الانثروبولجيا إلى تقارب ثقافات كل المجتمعات القبلية حيث وجدت في الأزمنة القديمة.

جاء انتقال الإنسان من عصر القبلية إلى عصر الزراعة بعد ان اكتشف نمطاً إنتاجيا جديداً أساسة فلاحة الأرض وإنتاج حاجته من الغذاء، وهذا فرض عليه أن يتبنى طريقة حياة جديدة تقوم على الاستقرار، تختلف كل الاختلاف عن طريقة حياة المجتمع القبلي القديم. وفي الواقع، لم يكن بإمكان الإنسان القبلي أن ينتقل إلى عصر الزراعة والاستقرار من دون أن يتنازل عن نمط إنتاجه وطريقة حياته وأهم عناصر ثقافته، وفي مقدمتها عادة الترحال والتنقل، والعصبية القبلية وما تعنيه من علاقات اجتماعية وأعراف، وتقاليد الغزو والنهب والسبي والأخذ بالثأر. وحيث رفض المجتمع القبلي التطور، واختار الحفاظ على طريقة حياته الرعوية وتقاليده العشائرية، فان مسيرة الحضارة الإنسانية جعلته يتخلف عن العصر بكل معطياته الحياتية.

إن استقرار الإنسان واتجاهه نحو بناء المساكن الدائمة وتشييد القرى الزراعية مكنه من إنتاج فائض غذائي؛ وهذا جعل بإمكان البعض من الناس أن يتفرغ للتفكير في قضايا لم تكن تشغل بال الإنسان القبلي، من بينها كيفية زيادة الإنتاج وتخزين الفائض وحفظه، وتطوير نظم لإدارة المجتمع، وتصنيع أدوات الإنتاج، وتطوير اللغات وفنون الكتابة والقراءة، والتأمل في شؤون الكون والحياة وما بعد الحياة؛ وهذا قاد إلى تطوير الحسابات الفلكية، وظهور الدين وفكرة التدين والعبادة في حياة البشرية لأول مرة. ولقد جاء الدين ليجيب عن الأسئلة التي عجز العلم في ذلك الوقت عن الإجابة عليها، وكي يمد المجتمع بنظام من القيم والتقاليد والطقوس التي قامت بتجميع الناس من حولها وتوحيدهم، ما جعل الدين يصبح جوهر الثقافة الشعبية في كل مجتمع زراعي. ويمكن القول بأن فكرة التقدم التي ظهرت في حوالي منتصف عصر الزراعة، تعتبر هي المسؤولة عن تحقيق التطور في فنون الإنتاج والعلم، والتنوع الثقافي والتعدد الديني؛ لكن كل تطور من هذا النوع مكن الأثرياء والأقوياء من استغلال الفقراء والضعفاء واستعبادهم أحيانا.

 في حوالي منتصف القرن الخامس عشر، دخلت الصين وبعض المجتمعات الأوروبية مرحلة انتقالية نحو عصر حضاري جديد، هو عصر الصناعة. وبينما نجحت المجتمعات الأوروبية عامة في تجاوز عصر الزراعة إلى الصناعة خلال ثلاثمائة سنة تقريباً، فشلت الصين في اقتحام ذلك العصر. ويعود سبب نجاح الأوروبيين وفشل الصينيين إلى تباين قوة الثقافة في حياة كل مجتمع؛ إذ فيما أسهم شيوع الحرية الاقتصادية والاجتماعية في المدن الأوروبية في فتح المجال لقيام نشاط فكري وحراك اجتماعي وحركة إصلاح دينية واسعة مهدت السبيل لحدوث الثورة الصناعية، لم يتوفر أي من  تلك الحريات في الصين. إذ إن ارتباط الحاكم في الصين بالآلهة، جعل السلطة السياسية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالسلطة الدينية والثقافة الشعبية. وفي ضوء أهمية الثقافة في تشكيل العلاقات الاجتماعية وطرق التفكير في المجتمع، فإن الحاكم في الصين رأى أن مصلحته تملي عليه التمسك بالثقافة الشعبية. وهذا جعل القوى الاجتماعية التقليدية والدينية والمؤسسة السياسية تتعاون معاً للحفاظ على مكونات الثقافة الكنفوشية، والانعزال عن العالم والعيش في كنف حضارة الزراعة وثقافتها ذات الجذور الزراعية. لذلك لم يستطع المجتمع الصيني الانتقال إلى عصر الصناعة، على الرغم من تفوقه العلمي والتكنولوجي حينئذ على أوروبا.

إلى جانب ذلك، كان المجتمع الصيني خاضعاً لسلطة مركزية قوية فرضت سيطرتها على البلاد وحكمتها بقبضة حديدية، وهذا حال دون نمو جيوب متحررة في استطاعتها التفكير بشكل مختلف أو مخالف لأوامر المركز كما حدث في مدن أوروبا التجارية؛ إذ كانت أوروبا حينئذ مجزأة إلى دويلات، وفيها العديد من المدن التي خضعت لسلطات ذاتية خارجه عن سلطة الأمراء والكنيسة معاً. لقد ساد الحياة الأوروبية في تلك العصور نظامان مختلفان، أحدهما اقطاعي والثاني مدني. وفيما تركز النشاط الزراعي في الأرياف والإقطاعيات، تركز نشاط التجار والحرفيين في المدينة. وبسبب اتجاه الكنيسة إلى إخضاع الملوك والأمراء لتعاليمها، وإدانه العديد من النشاطات التجارية والمعاملات المالية، فان النزاع ساد علاقة الملوك والأمراء بالكنيسة من ناحية، وعلاقة الكنيسة بالقوى الاقتصادية الفاعلة في المدينة من ناحية ثانية. وهذا فتح المجال لبروز تيارات اجتماعية وثقافية غير تقليدية اتجهت عموماً إلى مناهضة فكر اللاهوت الكنسي، وبالتالي قيام القوى الاقتصادية والسياسية والفكرية بالتحالف والعمل على تقويض السلطة الدينوية للمؤسسة الدينية. ولقد تسبب ذلك التطور، خاصة في غياب سلطة سياسية ودينية مركزية، في ميلاد تقاليد وقيم وسلوكيات ومواقف ومصالح جديدة غير تقليدية كان لها الفضل الأكبر في احتضان النشاطات المالية والاقتصادية التي رافقت التوسع في عمليات التجارة والتصنيع.

وبدخول أوروبا عصر الصناعة في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، كانت الثقافة الأوروبية وما انبثق عنها من عادات وتقاليد وقيم ونظم اجتماعية وسياسية وعلاقات إنتاج وطرق تفكير تعيش فترة تحول عميقة. ومع نضوج الثورة الصناعية في أوائل القرن العشرين، تبلور المجتمع الصناعي الحديث وتبلورت معه ثقافته وطريقة حياته ونمط انتاجه، وكلها جاءت مختلفة كثيراً عما ساد حياة المجتمع الزراعي. وهذا بدوره جعل المجتمعات الزراعية التي رفضت دخول عصر الصناعة، أو تخلفت عنه تغدو مجتمعات متخلفة من النواحي الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعلمية والتعليمية والتكنولوجية والثقافية، أي متخلفة حضارياً وثقافياً عن العصر الجديد وتابعة له ولعلومه ودوله.

الانقطاع التاريخي

إنّ انتقال مجتمع من حضارةٍ لأخرى يشمل حدوث تحول عميق في نمط الإنتاج وعلاقات الإنتاج، والثقافة الشعبية، والهياكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ما يعني أن كل حضارة تفرز مجتمعاً جديداً واقتصاداً جديداً وثقافة جديدة مختلفة كثيرا ونوعيا عن مجتمع واقتصاد وثقافة الحضارة السابقة؛ وهذا يعكس حدوث انقطاع في المسيرة التاريخية، لأن التاريخ يتوقف أمام كل محطةٍ حضارية ليغير وسائله وفلسفته والمنطق الذي يحكم مسيرته قبل أن يبدأ حقبة جديدة. ومع تجاوز فترة الانقطاع وعودة التاريخ لمتابعة مسيرته، يكون تاريخ المرحلة السابقة ومنطقه قد انتهى، وحكمته قد فقدت صلاحيتها. وهذا يعني أن لكل مرحلة حضارية تاريخها ومنطقها التاريخيَّ الخاص بها، وأن التاريخ يبقى قادراً على إعادةِ تمثيل بعض أحداثه طوالَ بقاءِ الحضارة المعنية على حالِها وسيادة نمَطها الإنتاجي والثقافي. ومع فقدان التاريخ لمنطقه وصلاحية ذلك المنطق، يفقد التاريخ دوره كإطار مرجعي يُستعان به في فهْم الحاضر، وتشكيل المستقبل والتنبؤ بأحداثه.

بناء على ذلك يمكن القول إن تاريخ المجتمع القـبلي ومنطقه وحِكمته بقيت صالحة بوصفها إطارا مرجعيا في التفكير والتنظيم والتنبؤ المستقبلي وتشكيل الهُـويات الجماعية طوال فترةِ الحياة القبلية. بعد وصولِ النموذج الحضاري القائم على الزراعة والاستقرار، بدأت المجتمعات الزراعية في كتابة تاريخِها الخاص بها والذي اختلف اختلافاً نوعياً عن تاريخ حياة المجتمعات القبلية، الأمر الذي جعل التاريخ القبلي يصبح جزءاً من حياةٍ وثقافة تجاوزها الزمن، لا تملك القدرة على الإسهام في تشكيل حياة أو ثقافة أو اقتصاد المجتمع الزراعي. وقد حدث الشيء نفسُه بالنسبة لتاريخ المُجتمعات الزراعية بعد تبلورِ عصر الصناعة، ونجاح العديدِ من الدول في اقتحام ذلك العَصر، والقيام بتحديد معالم حضارته الأكثر تعقيداً وديناميكية وعلمية وإنتاجاً من الحضارات السابقة، مما جعل تاريخ عصر الزراعة يفقد منطقه وصلاحيته وقدرته على أن يكون إطاراً مرجعياً يمكن توظيفه لتشكيل عصر الصناعة، أو التنبؤ بتطوراته المستقبلية. رغم ذلك، بقي تاريخ الزراعة محافظاً على الجزء الأكبر من منطقه وصلاحيته بالنسبة للمجتمعات الزراعية التقليدية وعلاقاتها بغيرها من مجتمعات وثقافات تعيش في عصر الزراعة نفسه. ولمّا كان كل تاريخ يفقد صلاحيته حين تنتقل البشرية من حقبةٍ حضارية لأخرى، فقد أصبح من غير الممكن أن يقوم تاريخٌ بتكرار نفسه إلاّ ضمن حدودٍ ضيقة تقع ضمن حدود حضارته التي عاش فيها وأسهم في تشكيل ثقافتها ومعطياتها الحياتية.

لقد جاء تدويل أسواق المال والاستثمار والتجارة والعمَالة المؤهلة تأهيلاً عِلمياً وفنياً عالياً بدءا من منتصف تسعينات القرن العشرين ليتسبب في تغيير معظم الفرضيات التي ترتكز عليها النظرية الاقتصادية الرأسمالية. من ناحية ثانية، قام التقدم الهائل في علوم الاتصال والإعلام والمعلومات، وسيطرة المصلحة على حياةِ المجتمع الصّناعي الديمقراطي، وظهور مجموعاتِ الضغط الخاصة (اللوبي) بإضعافِ الأحزاب السياسية وتعطيل فاعلية أغلب المؤسسات الديمقراطية التقليدية. وهذا يعني أن المحطة التي أشار إليها فرانسيس فوكوياما Francis Fukuyama لم تأتِ لتعلن نهاية التاريخ، بل لتعلن دخول النظام الغربي القائم على الرأسمالية والديمقراطية ازمة عويصة. ولمّا كانت فترات الانقطاع التاريخي هي فترات انتقال حضارية تُؤذِن بانتهاء مَسيرة حضارة، وبدء حضارة لاحقة، فإن فترات الانقطاع التاريخي هذه تتصف عادة بالارتباك والضياع والقلق، وليس بالاستقرار.

إن الادّعاء بانتهاء التاريخ عند محطة الديمقراطية والرأسمالية، هو ادعاءٌ مغلوط يعكس عدم فهم فوكوياما لطبيعة مرحلة التغير التي مر بها عالم نهاية القرن العشرين، لأن ما حدث فعلاً هو اضطرار التاريخ إلى التوقف ريثما تستكمل المجتمعات الصناعية فـترة الانتقال إلى عصر المعرفة. إن تحول نمط الإنتاج الرئيسي في المجتمعات الصناعية من تصنيع البضائع والمعدات والآلات إلى جمع وتحليل المعلومات والمعارف العلمية وتسويقها، فرض على النظم المجتمعية أن تتطور في اتجاه بعيدٍ عن ثقافة الصناعة واقتصادها ومجتمعها. لذلك يقول Richard Rubenstein: إن هناك حاجة لنظرية اجتماعية تساعدنا على فهم العالم الذي نعيش فيه، يكون بإمكانها تفسير طبيعة العلاقات بين النظم الحياتية المختلفة وديناميكيتها، وكيف تؤثر في حياتنا.

استغرقت الفترة الانتقالية بين حضارتي الرعي والزراعة نحو 3000 سنة، فيما استغرقت الفترة الانتقالية بين حضارتي الزراعة والصناعة نحو 300 سنة. أما الفترة الانتقالية بين حضارتي الصناعة والمعرفة فمن المتوقع أن تستغرق نحو 30 سنة فقط. وبسبب قِصَر هذه الفترة، فإن من الصعب على العُلماء والمفكرين والمؤرخين الذين انشغلوا في إدارة الحرب الباردة، واستعمار الشعوب الفقيرة واستغلال ثرواتها إدراك طبيعة الفترة الانتقالية وتبعاتها؛ وهذه تبعات تستوجب التخلي عن الكثير من الأفكار السابقة والنظريات التي فقدتْ صلاحيتها، ما جعلهم يقومون باستخدام أدوات الماضي ومنطقه لتفسير الحاضر والتنبؤ بالمستقبل. وفي الواقع، لقد أصبح معظم هؤلاء ونظرياتهم جزءا من تركة الماضي التي تجاوزها الزمن ولم تعد صالحة للاستخدام مجددا. 

تجسد فترة الانقطاع التاريخية حالة مجتمعية غير مستقرة، ليس لها صفاتٌ ثابتة، ولا تحكمها قوانين أو قوى تغيير معروفة يمكن تحديدُها وتوظيفها للتنبؤ بما سيفضي إليه التغير من تطوراتٍ مستقبلية؛ الأمر الذي يجعل تجربة الإنسان والمجتمع الذي يمر بفترة انتقال حضارية شبيهة بتجربة سائق سيارة دخَل منطقة جبال وَعِرة يـتلوى الطريق فيها تبعاً لارتفاع الجبال وعُمق الأودية. وما أن قام الطريق بالالتفاف حول جبل حتى اختفت معالم الطبيعة التي تعوّد السائق على رؤيتها كلما نظر في المرآة الخلفية، فيما كانت الجبال أمامه تحُولُ دون رؤيةِ معالم الطبيعة التي تترامى خلفها. نتيجة لذلك تراجعت قدرة السائق على التحكم في السيارة وسرعتها، حيث أصبحت قرارته عُرضة لِما يواجهه من مطبات ومنحنيات لا يعرف متى تـنتهي ولا كيف ستـنـتهي. فلا الطبيعة خلفه تعطيه فكرة عما يوجد أمامه، ولا الجبال تعطيه فرصة لتخيل ما ينتظره من مفاجآت، ما جعَل حالته النفسية تعكس خليطاً من التفاؤل والتشاؤم والتخبط والارتباك والقلق في آن واحد.

ومع أن فهم التاريخ واستيعاب عِبره وكيفية الاستفادة منه قضية مهمة، إلا أن التركيز على التاريخ وحكمة الماضي يجعل الناس مجرد أسْرَى يعيشون في بيتٍ موحش لا تُطِلُّ عليه شمس، ولا يزوره زائر. ومع أنه من الممكن توظيف التاريخ والذكريات التي تختزنها الشعوب والأمم عادةً لبدء عملياتِ تغير وتحوّل مثمرة، إلا أن التقدم المجتمعي ــ وحتى الفردي ــ  لا يمكن أن يحدث من دون تسليط الأنظار على المُستقبل، مما يوجب التعرف إلى القوى المحركة للتاريخ والطريق الذي تسلكه تلك القوى أثناء قيامها بقيادة عمليات التحول الاجتماعي والثقافي وصُنع التقدم، ما يعني أننا بحاجةٍ لنظرية تربط الحاضر بالمستقبل في ضوءِ علاقة الحاضر بالماضي مروراً بفترات الانقطاع التاريخية.

الثقة التقليدية والثقة الاجتماعية

تنقسم الثقة في المجتمع إلى نوعين: ثقة تقليدية مُتوارثة، وثقة اجتماعية مُكتسبة. وفيما تتمتع المجتمعات الزراعية والقبلية بدرجة عالية من الثقة التقليدية، لا تملك سوى القليل من الثقة الاجتماعية. في المقابل، فيما تتمتع المجتمعات الصناعية والمعرفية بقدر كبير من الثقة الاجتماعية، لا تملك سوى القليل من الثقة التقليدية. أما المجتمعات التي تمر في مرحلة انتقال حضارية، كالمجتمعات العربية عامة، فتتصف بفقدان غالبية ما لديها من ثقة تقليدية، وعدم استحواذها على قدر معقول من الثقة الاجتماعية. وهذا يجعل تلك المجتمعات، خاصة المدن الكبيرة المكتظة بالمهاجرين من الأرياف والبوادي، تتصف بفقدان الثقة الاجتماعية والتقليدية على السواء، ما يجعلها تعاني عجزاً في الثقة، (Trust Deficit).

الثقة التقليدية هي نتاج مجتمع مستقر بطيء التطور، يعيش أفراده في قرى وأحياء صغيرة شبه معزولة عن المجتمع الأكبر، ما يتيح لأعضاء القرى والأحياء فرصة التعرف إلى بعضهم البعض عن قرب، والتواصل بشكل يومي أو شبه يومي؛ وهذا يجعل من السهل أن تسود الثقة في المجتمع هذا دون حاجة لتدخل الدولة أو القانون. إذ تقوم التقاليد والعادات والقيم والهياكل الاجتماعية ببلورة هذه الثقة والحفاظ على استمراريتها. أما الثقة الاجتماعية فهي نتاج مجتمع كبير سريع التطور، يعيش أفراده في مدن وأحياء مترامية الأطراف، فيما يعيش الناس خلف أبواب مغلقة وأسوار عالية؛ ما يجعل من المتعذر عليهم التعرف إلى بعضهم البعض وتكوين ثقة تقليدية. لذلك يجد المجتمع هذا نفسه مضطراً، كي يحافظ على بقائه وسير الحياة فيه بشكل طبيعي، أن يطور ثقة اجتماعية بديلة للثقة التقليدية، وذلك باخضاع مختلف العلاقات لتشريعات رسمية، وتقنين المعاملات التجارية والمالية. وتقوم الثقة الاجتماعية على احترام كل فرد في المجتمع لرأي غيره من الناس، والاعتراف بحق كل مواطن في السعي لتحقيق مصالحه الخاصة، شريطة الالتزام بعدم الاعتداء على حقوق غيره من الناس. إذ من خلال الاعتراف المتبادل بحقوق ومصالح متكافئة تسـود الثقة في المجتمع، ويطمئن الناس إلى بعضهم البعض دون حاجة لمعرفة شخصية، ودون احتكاك مباشر فيما بينهم.

وهذا يعني أن الثقة التقليدية تسود ضمن حلقات الانتماء الصغرى، في نطاق العائلة والجِوار والقرية والتجمعات التي تقوم على مبادئ عقائدية مشتركة، فيما تسود الثقة الاجتماعية ضمن حلقات الانـتماء الكبرى، في نطاقِ المنظمات المهنية والدوائر الحُكومية والتجمعات القائمة على مصالح متبادلة. ولما كانت العلاقات ضمن حلقات الانتماء الصغرى تميل بطبيعتِها إلى البساطة والثبات، وقلما تخضع لقانون، فإن الثقة التقليدية تميل إلى الثبات كذلك. أما الثقة الاجتماعية فتميل إلى التحول باستمرار بسبب تغير المصالح وتعديل القوانين تبعاً لتغير الأوضاع الاقتصادية والحياتية. ولما كانت الثقة التقليدية سمة ثقافية موروثة، فإن صورها قلما تغيرت في حياة مجتمع تقليدي، فيما تـتغير صور الثقة الاجتماعية في حياة كل جماعة تعيش في مجتمع غير تقليدي بسبب تغير المصالح والقوانين.

إذاً، الثقة التقليدية هي سمة ثقافية متوارثة تسود في المجتمعات التي تعيش في عصور ما قبل الصناعة وتعتمد أساساً على علاقات الجوار والقرابة والنسب؛ أما الثقة الاجتماعية فهي سمة ثقافية مكتسبة تسود في مجتمعات تعيش في عصور الصناعة وما بعدها. وهذا يجعل من غير الممكن أن تعيش الثقة التقليدية والثقة الاجتماعية في مجتمع واحد، إذ حين تضعف الثقة التقليدية يصبح لزاماً على المجتمع أن يطور ثقة اجتماعية، وحين تتطور الثقة الاجتماعية تتراجع أهمية الثقة التقليدية ويتضاءل دورها في حياة المجتمع. حين تتراجع الثقة التقليدية ويعجز المجتمع عن تطوير ثقة اجتماعية بديلة، فإن النتيجة تكون تفتت المجتمع، وتدهور القيم والمواقف، وانتشار الفساد، وضعف الشعور بالمسئولية، والعجز عن تحديد الأهداف المجتمعية.

وعلى سبيل المثال، فيما يميل السائق في أوروبا إلى الثقة بمهارة السائق الذي يقابله على الطريق من دون أن يعرف عنه شيئاً، يميل السائق في الدول العربية إلى الشك بمهارة السائق الذي يواجهه على الطريق حتى وإن عرفه بصفة شخصية. لذلك حين يقود أحدنا سيارته في مدينة أوروبية فإنه يشعر باطمئنان أكبر مما يشعر به حين يقود سيارته في مدينة عربية. ففي أوروبا يحترم السائق عموماً قوانين السير ويعرف فنون قيادة السيارة وأصولها، ما يعزز الثقة بذلك السائق؛ أما في البلاد النامية عامة، فإن السائق يميل إلى عدم احترام قانون السير، وغالباً لا يفهم ذلك القانون، وأحيانا يحصل على رخصة قيادة السيارة مقابل رشوة؛ ما يضعف الثقة بهذا السائق. وهذا يعني أننا نثق في السائق الأوروبي لأننا نثق بأنه يفهم قانون السير ويحترمه، ولا نثق في السائق العربي لأننا نعتقد بأنه قلما فهم قانون السير واحترمه؛ ما يعني أن الثقة وعدم الثقة في الحالتين تأتي من خلال فهمنا للقانون ودوره في حياة المجتمع واحترامنا له.

حين يمر مجتمع بفترة انتقال حضارية، تشهد الحياة فيه مزيداً من التعقيد، فيما تشهد الثقافة مزيداً من التفسخ والتفتت، ما يجعل القِـيم والتقاليد والأعراف القديمة تـنهار بسرعة. وهذا يتسبب في انحسار الثقة التقليدية قبل أن تتطور القوانين والمؤسسات في المجتمع الجديد بالقدر الكافي لخلق ثقةٍ اجتماعية بديلة، ما يعني أن المجتمع هذا يشهد عجزاً في الثقة. وهذا من شأنه أن يجعل شخصاً أهلاً للثقة على مستوى العائلة مثلاً، وغيرَ أهل للثقة على مستوى المجتمع، ما يؤدي إلى انتشار الفساد والانحراف والازدواجية وضعف المسؤولية الفردية والاجتماعية. كما أن العجز في الثقة يُبطئ عمليات التطور المجتمعية، وقد يتسبب في تعطيل مسيرة المجتمع نحو تحقيق أهدافه في التنمية والنهضة، كما حدث ويحدث في معظم الدول النامية. 

فيما تُركز الثقافات الغربية على حقوق الفرد أكثر من تركيزها على واجباته، تركز الثقافات الزراعية والقبلية على واجبات الفرد أكثر من تركيزها على حقوقه؛ وهذا جعل الفردية كموقف وقيمة اجتماعيـة تزدهر في الغرب على حساب المجموعة والمجتمع، فيما قاد إلى كبت الفرد والمبادرات الفردية في المجتمعات التقليدية. في المجتمعات الغربية، يعرف الفرد حقوقه وتقوم الدولة بمساعدته على معرفتها، ما يجعله يعي ما له من حقوق وما عليه من واجبات. في المقابل، فيما يعي الفرد في المجتمعات الشرقية واجباته، وتعمل الدولة على زيادتها وتذكير المواطنين بها باستمرار، يشقى الفرد كي يعرف حقوقه التي تقوم الدولة والسلطة التقليدية عادة بمصادرة الجزء الأكبر منها. وفيما تسبب هذا الوضع في دفع الفرد نحو الارتماء في حضن جماعة أو طائفة أو عشيرة سعياً لضمان وجوده الاجتماعي والحصول على بعض حقوقه، كان سببا في تفشي الواسطة والمحسوبية، وشرعنة تلك التصرفات بوصفها تقاليد وأعراف متوارثة. في الغرب الديمقراطي، حقوق الفرد وحرياته أشياء مقدسة تولد معه وتعيش معه العمر كله، وتتكفل الدولة بتأمينها وحمايتها. أما في الشرق، فإن حقوق الفرد تعتبر عادة منحة من الحاكم تخضع لمشيئته ومزاجه، يمنح من يشاء القدر الذي يشاء، ما يجعله يشعر بأن من حقه استردادها وحرمان الفرد منها متى شاء.

المجتمعات التي تملك الكثير من الثقة التقليدية ولكن القليل من الثقة الاجتماعية تزدهر فيها العلاقات القائمة على العواطف والروابط العائلية، فيما تـتراجع العلاقات القائمة على العمل والإنتاج والمؤسسية. وبعكس ذلك تماماً، تزدهر العلاقات القائمة على المصالح وما يرتبط بها من نشاطات مالية وتجارية وعلاقات إنتاج ومؤسسات علمية واجتماعية، وذلك بسبب ما تملكه المجتمعات هذه من ثقة اجتماعية، فيما تـتراجع العلاقات القائمة على العواطف والروابط العائلية بسبب غياب أو ضعف الثقة التقليدية. ولما كانت الثقة الاجتماعية أمراً مهماً لتنظيم العمليات المعقدة، فإن المجتمعات التي تملك قدرا جيدا من الثقة هذه استطاعت تحقيق درجة عالية من التصنيع والتقدم، فيما فشلت المجتمعات التقليدية في مُجاراتها وتحقيق نهضة مماثلة.

إن أزمة الركود الاقتصادي الكبير التي تبلورت في عام 2008 تعطي مثالاً جيداً على ما يمكن أن يحدث في مجتمع يعاني عجزاً في الثقة؛ إذ إن مرور أمريكا في مرحلة انتقالية من عصر الصناعة إلى عصر المعرفة جعلها تخسر جزءاً كبيراً مما كان لديها من ثقة اجتماعية بسبب تـقادم الكثير من القوانين والتشريعات، وفشلها في تطوير قوانين وتشريعات جديدة تحلُّ محل المتقادمة بالسرعة المطلوبة. وفي غياب الثقة تراجعت المسؤولية الاجتماعية، الأمر الذي شجع مدراء البنوك وشركات التأمين ومؤسسات التمويل والاستثمار، مُسلحين بسلاح الجَشَع، على التحايل على القوانين والتقاليدِ المتبعة في محيط عمَلهم والتلاعُب في الأسواق المالية وأسعار الفائدة على القروض، وخلق "منتجات مالية" (Financial Products) استهدفت أساساً استغلال الفقراء والجهلاء وكبار السن من المـتقاعدين والأجانب، والإثراء على حسابهم. ويمكن القول إن ما حدث منذ بداية التسعينات من القرن العشرين من تحولات مجتمعية تسبب في انحسار الثقة الاجتماعية التي نشأت في العصر الصناعي، ما جعل مجتمعات الغرب عامة تعاني  أزمة ثقة تختلف حدتها بين مجتمع وآخر، وهذه ثقة لن يكون من السهل استردادها في ظل هَيمنة فلسفة السوق الحر وثقافة الجَشَع على المجتمع. أما الهند والمكسيك ومصر فتعطي أفضلَ الأمثلة على تراجُع الثقة التقليدية وتخلف الثقة الاجتماعية وحدوث عجز في الثقة نـتيجة لمرورها في مرحلة انتقال حضارية من الزراعة إلى الصناعة، ما يؤدي إلى شُيوع الفساد وغيابِ العَدالة، واتجاه الأثرياء والأقوياء إلى استغلال الفُقراء والضعفاء.

يعتقد المعنيون بالتنمية بأن رأس المال الاجتماعي هو أهم شروط التقدم والازدهار، وأنه لا يمكن لمجتمع أن ينتج رأس مال اجتماعي من دون أن يتمتع بثقة اجتماعية. لكن فوكوياما وغيره من مفكري الغرب يقولون بأن الثقة الاجتماعية هي نتاج ثقافي موروث، وأن تباين الثقافات يجعل المجتمعات المختلفة تملك مستويات متباينة من تلك الثقة. لذلك تقول النظرية التي تركز على أهمية الثقافة في العملية التنموية إن هناك ثقافات تتميز بدرجة عالية من الثقة الاجتماعية، وإن هذه الثقافات قادرة على إنتاج قدر كبير من رأس المال الاجتماعي، وبالتالي تملك القدرة على تحقيق التنمية والنمو. في المقابل، هناك ثقافات ليس لديها ما يكفي من الثقة الاجتماعية لإنتاج رأس مال اجتماعي بالقدر المطلوب لتنشيط العملية التنموية، ما يجعلها عاجزة بطبيعتها عن تحقيق التقدم والنمو. ويقول المتطرفون المنتمون لهذا التيار إن قابلية معظم الثقافات للتغير ضعيفة للغاية، ما يعني أن هناك مجتمعات تملك القدرة على التطور، وأخرى لا تملك تلك القدرة، وأنه ليس بالإمكان تغيير هذه الحقيقة، ما يستوجب الاعتراف بها والتعامل مع ما يترتب عليها من تبعات.

ولما كان المجتمع العربي ما يزال يعيش في عصر الزراعة مع وجود جيوب قبلية وأطراف صناعية صغيرة، فان الثقافة العربية بعناصرها المختلفة أصبحت متخلفة عن العصر. إلى جانب ذلك، أصبحت تلك الثقافة تعكس عناصر ثقافية من إفراز ثلاثة حضارات متباعدة، هي حضارة القبلية وحضارة الزراعة وحضارة الصناعة. ولقد تسبب هذا التطور في تفتيت الثقافة العربية إلى ثقافات فرعية، وتقويض دعائم الثقافة الوطنية، وخلق أزمة هوية في كل البلاد العربية. ولما كانت الثقافة هي الغراء الاجتماعي الذي يربط أعضاء المجتمع الواحد بعضهم إلى بعض، فإن تفتت الثقافة أدى إلى تفتت المجتمعات العربية؛ وهذا يجعل من الصعب تحقيق وحدة في المواقف أو الأهداف بين مختلف مكونات كل مجتمع عربي، وبين التجمعات المختلفة.

جوهر الثقافة عبر العصور

فرضت البيئة الطبيعية على المجتمع القبلي أن يعيش على صيد الحيوانات ورعي المواشي كالغنم والإبل، وأن يحارب غيره من قبائل كي يحصل على قوت يومه ويحافظ على بقائه. ومع الأيام، وجد الإنسان القبلي نفسه، ومن حيث لا يدري، أنه يقوم بتكريس حياته للحرب والقتال، لأنه وجد في الغزو والفروسية والمبارزة والسبي والنهب مصدراً للمتعة والترفيه عن النفس. ويقول بعض المؤرخين إن كل لقاء بين شخصين أو مجموعتين من الناس، وحتى 7500 ماضية، كان يعني الحرب، وقيام كل فريق بمحاولة قتل الفريق الآخر. لذلك لم يستطع الإنسان القبلي أن يتجنب الحرب، ما جعله "يحارب ليعيش ويعيش ليحارب". لذلك أصبحت عمليات الغزو وما يرافقها من قتل ونهب وسبي هي جوهر ثقافة عصر القبلية، ما جعل حياة الإنسان القبلي تبدأ وتنتهي بالقتال والحروب.

قبل نحو عشرة آلاف سنة، ظهر المجتمع الزراعي، حيث قام نمط حياته على حساب نمط حياة المجتمع القبلي. ولما كان الانتقال إلى الزراعة قد صاحبه ظهور مجتمع جديد بثقافة جديدة واقتصاد جديد، فإن فلاحة الأرض شكلت حضارة جديدة ذات مجتمع وثقافة واقتصاد مختلف تماماً عن مجتمع وثقافة واقتصاد العصر القبلي. ومع الأيام، وجد الإنسان الزراعي نفسه، ومن حيث لا يدري، أنه يقوم بتكريس جل حياته للأكل، لأنه وجد في زراعة الأرض والعناية بالمزروعات وإعداد الطعام والمشاركة في الولائم الجماعية مصدراً للمتعة والترفيه عن النفس. لذلك، كان الإنسان الزراعي "يأكل ليعيش ويعيش ليأكل". لذلك أصبحت إقامة ولائم الطعام وما يصاحبها من تجمعات وحكايات وإشاعات ونميمة هي جوهر ثقافة عصر الزراعة، ما جعل حياة الإنسان الزراعي تبدأ وتنتهي بالأكل.

أما عصر الصناعة الذي ظهر قبل نحو 250 سنة، وقام على حساب عصر الزراعة ونمط حياته وإنتاجه، فقد شهد تبلور مجتمع جديد وثقافة جديدة واقتصاد جديد يختلف نوعياً عن مجتمع وثقافة واقتصاد عصر الزراعة، ما جعله يبدأ حضارة جديدة هي حضارة الصناعة. لقد كان على العامل الصناعي، في ظل نظام المصنع وثقافته، أن يعمل ساعات طويلة مقابل أجرة قليلة تمكنه من كسب قوت يومه والحفاظ على بقائه. ومع الأيام، وجد الإنسان الصناعي نفسه، ومن حيث لا يدري، أنه يقوم بتكريس جل حياته للعمل، لأنه وجد في الوظيفة وعلاقات العمل والانتماء لمؤسسة إنتاجية مصدراً للمتعة والدخل، ووسيلة لتكوين علاقات مع غيره من العاملين، والاستحواذ على مكانة اجتماعية. لذلك كان الإنسان الصناعي وما يزال "يعمل ليعيش ويعيش ليعمل". لذلك أصبح العمل جوهر ثقافة عصر الصناعة، ما جعل حياة الإنسان الصناعي تبدأ وتنتهي بالعمل.

في عصر المعرفة الآخذ في التكون والتبلور بسرعة بمجتمعه وثقافته واقتصاده المختلف نوعياً عن كافة ما سبقه من مجتمعات وثقافات واقتصاديات، أصبح على الإنسان المعرفي أن يتعلم كي يحصل على وظيفة جيدة ذات عائد جيد، وأن يواصل عملية التعلم كي لا يتخلف عن اقرانه من المعرفيين. ومع الأيام، وجد العامل المعرفي نفسه، ومن حيث لا يدري، أنه يقوم بتكريس جل حياته للمعرفة والعلم، لأنه وجد في التعلم والاستزادة من المعرفة وعلاقات العمل مصدراً للمتعة والترفيه عن النفس، والحصول على دخل أكبر ومكانة اجتماعية أفضل؛ وهذا فرض على الإنسان المعرفي أن "يتعلم ليعيش ويعيش ليتعلم". لذلك أصبحت المعرفة والحصول على المزيد منها هي جوهر ثقافة عصر المعرفة، كما أصبحت حياة الإنسان المعرفي تبدأ وتنتهي بالتعلم.

وإذا كانت ثقافة القبلي القائمة على الغزو والنهب والسبي والأخذ بالثأر قد اندثرت أو على وشك الاندثار، فإن ثقافة الإنسان الزراعي ما تزال تراوح في مكانها بعد أن انتقلت تقاليدها إلى المدن في كافة المجتمعات التي لم تدخل عصر الصناعة بعد، ومن بينها المجتمعات العربية، حيث لا يجد الناس في الأرياف والمدن العربية نشاطاً اجتماعياً أكثر متعة من حفلات الطعام والولائم التي تصاحب الأفراح والمآتم على السواء. أما ثقافة الإنسان الصناعي فما زالت تنتشر في مختلف بقاع العالم بسرعة، وهي ثقافة تقوم على العمل والإنتاج، وتستخدم المصلحية أداة لجمع الثروات وتكوين علاقات العمل والعلاقات الاجتماعية. أما ثقافة الإنسان المعرفي فهي الأصغر ولكن الأسرع انتشاراً، وأنها تقوم على الفرد المعرفي الذي يتحرك بحرية كبيرة، لا يتقيد بقيود اجتماعية أو ثقافية أو إيديولوجية، ولا يرى استثماراً أفضل من الحصول على المعرفة وتوظيفها في مجالات تكنولوجية وخدماتية تعود عليه بفوائد مادية ومعنوية كثيرة.

وفي ختام هذا العرض السريع للتطور الثقافي والحضاري، أود أن أؤكد على الأمور التالية: أولاً، إن كل مرحلة تطور حضاري تمثل حضارة قائمة بذاتها، وإن الحضارة هذه تأتي في أعقاب فترة انتقال صعبة تخلق أوضاعاً حياتية غير عادية تتصف بالارتباك والفوضى وضبابية الرؤية. ويمكن وصف المجتمعات والثقافات التي تمر بفترة انتقال حضارية ببضع كلمات جاءت على لسان أرنولد ماثيو حين قال بأنها مجتمعات "تعيش بين عالمين، أحدهما مات والثاني يعاني حالة ميلاد عسيرة". ثانياً، إن كل فترة انتقال تمثل، إذا ما نظرنا إليها عن بعد، فترة انقطاع تاريخي، يتوقف التاريخ عندها قليلاً أو طويلاً قبل أن يعاود مسيرته بروح جديدة ومنطق جديد، ما يعني أن تاريخ ومنطق كل حضارة ينتهي مع بداية فترة الانتقال التالية. ثالثاً، مع بداية الفترة الانتقالية لا ينتهي تاريخ الحضارة السابقة فحسب، وإنما تنتهي معه صلاحية ذلك التاريخ وحكمته، ما يفرض على المرحلة الجديدة أن تكتب تاريخها بنفسها وتكتشف منطقه والمسار الخاص به، وتتعرف على حكمته. رابعاً، إن كل حضارة تفرز مجتمعها المختلف هيكلياً وثقافتها المختلفة نوعياً ونمط إنتاجها المختلف تنظيمياً وتكنولوجياً عما سبقها من مجتمعات وثقافات وأنماط إنتاج. وهذا يجعل القطيعة بين الحضارة السابقة والحضارة اللاحقة شبه كاملة، فيما يجعل الثقافات القديمة والجديدة تعيش حالة اغتراب عن بعضها البعض. خامساً، في اللحظة التي تتبلور فيها معالم الحضارة الجديدة، يصبح مجتمع وثقافة ونمط إنتاج الحضارة السابقة معتمداً على مجتمع وثقافة ونمط إنتاج الحضارة التالية وتابعاً له تبعية شبه كاملة، ما يجعل التبعية أمراً طبيعياً تحتمه عملية التطور الحضاري عبر الزمن. وسادساً، بحكم تبعية الحضارة السابقة للحضارة اللاحقة وتخلفها عنها، فإن الثقافات والمجتمعات والحضارات التي يتم تجاوزها تفقد قدراتها على تحدي الحضارات اللاحقة أو حتى محاكاتها في المجالات الصناعية أو الثقافية أو الفكرية أو السياسية أو العسكرية. وهذا يعني ببساطة أن التطور الحضاري تجاوز الثقافة العربية ومجتمعاتها وأنماط إنتاجها الرعوية والزراعية على السواء، ما جعلها تفقد صلاحيتها بالنسبة لعصري الصناعة والمعرفة.

أزمة الثقافة العربية

إن نمو سكان المدن في البلاد العربية بسرعة، واكتظاظ تلك المدن بسكان قدموا من أرياف وبوادي متباعدة ذات تقاليد وطرق حياتية متباينة، جعلهم يشعرون بأنهم غرباء يعيشون في أماكن غريبة؛ وهذا جعل من الصعب عليهم تطوير طرق حياة تجمعهم حول منظومة ثقافية واحدة، والحفاظ على ما كان لديهم من ثقة تقليدية. لذلك لم يعد بإمكان الثقة التقليدية أن تقوم بوظائفها المعتادة، فالجيران لا يعرفوا بعضهم بعضاً، والأقارب والأصدقاء تشتتوا في مدن متباعدة وأحياء مختلفة. وفي الوقت ذاته، تسببت ظروف الحياة المتغيرة وتزايد تعقيداتها من ناحية، وتخلف القانون والتشريعات وعجز الدولة عن تطبيق الموجود منها من ناحية ثانية، في تعذر توفير الحد الأدنى من الثقة الاجتماعية المطلوبة لتحقيق التنمية والازدهار.

تميل كافة الثقافات إلى التطور البطيء، والإقبال بتردد على الأفكار والقيم والمواقف والسلوكيات الجديدة. ولما كان التطور النوعي الذي عاشه العالم وما يزال يعيشه قد جاء أساساً نتيجة للتقدم العلمي والاقتصادي والتكنولوجي والفكري الذي أفرزته تجربة الغرب الحضارية، فان الجديد من الأفكار والقيم والسلوكيات اصبح بالنسبة لغالبية شعوب العالم مستورداً وليس أصيلاً. وهذا جعل التوجه العربي نحو رفض الكثير من الأفكار والقيم والمواقف الغربية يبدو وكأنه محاولة للحفاظ على أصالة الثقافة العربية وليس هروباً من تحديات العصر الثقافية أو العلمية والتكنولوجية التي فرضتها طبيعة التطور. وبسبب ارتباط الفئات المثقفة والحاكمة والثرية العربية بالغرب بروابط مصلحيه أو ثقافية، فان تطور فئات المجتمع العربي لم يكن واحدا او متناسقا. إذ فيما اتجهت القلة إلى تقليد الغرب والتكيف لمتطلبات المستورد من أفكار وقيم، اتجهت الأكثرية إلى التمسك بالقيم المتوارثة، واتباع العادة والتقليد ومقاومة المستورد من عناصر ثقافية. وفي العديد من الحالات، تسببت الروابط الثقافية والمصلحية التي تربط بعض الفئات العربية مع الخارج، وعمق معتقدات البعض الدينية في الداخل في انقسام المجتمع العربي إلى معسكرين لا يلتقيان، إحدهما يميل إلى رفض المستورد الثقافي، والثاني يُقبل على المستورد بحماس، ما جعل المجتمع العربي يصبح كياناً مشوّه الشخصية، مختل التوازن، وعديم القدرة على تحديد مرجعياته الفكرية وأهدافه الاجتماعية وقضاياه المجتمعية.

تتكون الثقافة العربية من عناصر مستمدة من عصري القبلية والزراعة، ما يجعل مكونات هذه الثقافة من عادات وتقاليد وأعراف وطرق تفكير ومواقف وقيم وأفكار وخرافات وأساطير شعبية وحكم موروثة عناصر قد تجاوزها الزمن منذ قرون؛ وبالتالي لا تصلح لمجتمع يتطلع إلى العيش في عصر الصناعة او المعرفة. مع ذلك لم تستطع المكونات الثقافية هذه على الرغم من تخلفها أن تبقى على حالها، إذ تم تشويهها خلال نصف القرن الماضي بفعل عدة عوامل؛ كان أولها هو اكتشاف النفط في أكثر بقاع العالم العربي تخلفا، وكان الثاني هو ظهور الدولة الوطنية (القُطرية)، وكان الثالث هو طغيان ثقافة الاستهلاك على ثقافة الإنتاج. إذ فيما تسبب اكتشاف النفط في دول عربية متخلفة علميا وثقافيا في حدوث ردة ثقافية أعادت العرب قرونا إلى الوراء، فإن توفر أموال النفط بكثرة لدى الدول المصدرة للنفط جعل بإمكان معظم سكان تلك الدول شراء مستلزمات العيش والرفاهية من دون إنتاج أي شيء في المقابل. وهذا تسبب بدوره في فصل ثقافة الإنتاج عن ثقافة الاستهلاك، إذ لم يعد الحصول على منتجات العصر الاستهلاكية والترفيهية يستوجب المشاركة في العملية الإنتاجية. أما ظهور الدولة القُطرية فقد تسبب في تفتيت الثقافة العربية، وتشجيع النخب الحاكمة والمنتفعين من قُطرية الدولة على الادعاء بأن لكل شعب ثقافته الخاصة، واستخدام وسائل الإعلام للترويج لخصوصية الدولة واضعاف أواصر ترابطها مع غيرها من شعوب ودول عربية أخرى.

أما عملية التشويه فقد تسللت مع شيوع النزعة الإستهلاكية التي كانت سببا رئيسيا في توجه قطاع كبير من كل شعب عربي نحو المادة، يُحركه الجشع ومحاكاة أثرياء العالم، ويدفعه حب المال إلى جمع المزيد من الثروات وتكديسها بغض النظر عن الوسائل المستخدمة والتبعات المحتملة. لذلك كثيرا ما يلجؤ الأثرياء والأقوياء إلى التحايل على القانون واستغفال الفقراء والضعفاء والجهلة من عامة الناس واستغلالهم دون رحمة أو واعز من ضمير. ولما كان الكثير من أثرياء العرب قد حصلوا على المال بطرق مشبوهة أو غير مشروعة، فقد كان عليهم أن يبرروا سلوكياتهم هذه بالادعاء بأنها تعكس ذكاء وحنكة، ومعرفة "من أين تُؤكل الكتف". ولقد تسبب هذا بدوره من ظهور العنجهي العربي، ما جعل الكثير من أثرياء هذا العصر ينظرون إلى الفقير والضعيف نظرة استعلائية لا تعترف بحقوقه، وتستهزؤ أحيانا بكرامته وإنسانيته. وهذا أدى إلى تجزئة العرب إلى فئات متباينة من حيث الدخل والثروة والقوة والمكانة الاجتماعية والانتماء العقائدي.

العنجهية هي موقف من الذات والآخر يقوم على أساس أن الذات مُتفوق على الآخر من النواحي الأخلاقية والعلمية والفكرية، وبالتالي أكثر فهما وذكاء منهم حتى وإن كان جاهلاً؛ لذلك من حقه أن يتمتع بحقوق أكثر ومكانة اجتماعية أفضل من غيره من الناس. وتتكون العنجهية من عنصرين أساسيين، هما الجهل والقوة. وفيما يدفع الجهل العنجهي إلى محاولة إخفاء جهله، تمكنه القوة التي يملكها من تأكيد تفوقه باستخدام قوته بفجاجة لكبت الآخر ومصادرة حقوقه والهيمنة عليه. أما مصدر القوة فهو إما أن يكون المال الوفير، أو القوة العسكرية الغاشمة. وعلى سبيل المثال يتصرف معظم الحكام في الدول النامية بعنجهية بسبب ما لديهم من أموال وعساكر تمكنهم من كبت الشعوب ومصادرة حقوق المواطنين وإرادتهم أحيانا، وشراء ضمائر بعض المثقفين في بلادهم. أما الفرد الذي يحمل الجهل في رأسه والمال في جيبه فيقوم عادة بشراء الناس وإذلالهم خاصة المرأة، فيما تقوم الدولة التي تتصف بالعنجهية مثل أمريكا بالادعاء بأن خبرائها هم الأعلم بشؤون كافة الدول والشعوب، واستخدام الرشوة السياسية والقوة العسكرية لتحقيق أهدافها على الساحة الدولية. والويل كل الويل للفقير والضعيف من الدول والشعوب والجماعات والأفراد حين يكون خصمهم أو الطامع بهم يجمع بين الجهل وقوة المال والعسكر في آن واحد.

الثقافة العربية التي نعرفها اليوم هي ثقافة انتقالية تعيش مرحلة تحول غير صحية وغير هادفة وغير منتجة، وذلك لأنها فقدت جذورها الثقافية القبلية والزراعية على السواء، كما فقدت ما كان لديها من ثقة تقليدية. وهذا يجعلها عاجزة عن تكوين ثقة اجتماعية ورأس مال اجتماعي بإمكانه توفير الحد الأدنى من متطلبات النهضة والتقدم. لقد تسبب اخفاق المجتمعات العربية في الانتقال إلى عصر الصناعة في بقاء الثقافة العربية، شأنها شأن المجتمعات العربية نفسها، تُراوح في مكانها، تتحول ببطء وتسير في اتجاهات متضاربة، ليس تحت تأثير نمط الإنتاج الصناعي، وإنما تحت تأثير نمط الاستهلاك الذي أشاعه النظام الرأسمالي، وعززته التوجهات المادية العربية. ومع فقدان الثقافة  العربية لسماتها الزراعية والقبلية القديمة، من دون أن تكتسب ثقافة الإنتاج الصناعية الغربية أو الآسيوية، تكون الثقافة العربية قد فقدت صلاحيتها للعصور القديمة والجديدة على السواء. لذلك أصبحت الثقافة العربية في أمس الحاجة لتحولات جذرية في القيم والمواقف وطرق التفكير الحالية كي تتجاوز تقاليد المجتمع الزراعي وعشائرية المجتمع القبلي والنزعة الاستهلاكية وعبادة المال، وتقوم بتطوير قيم احترام العمل والوقت والحياة والحرية والآخر وثقافة القانون.

إن مفردات التضاد في اللغة العربية مثل تعابير الخير والشر، الايمان والإلحاد، الحلال والحرام، الصديق والعدو، الصدق والكذب هي جزء اصيل من التراث الديني والقومي والقبلي على السواء. وبسبب عمق جذور هذه المفردات في اللغة العربية، فقد أصبح من الصعب أن يخرج مثقف عنها، مما جعلها تنعكس على مواقف غالبية المثقفين العرب وأفكارهم. وهذا جعل من الصعب على الإنسان العربي عامة أن يُفرق بين وجهة النظر وصاحبها، كما جعل من الصعب عليه أن يرى إمكانية القبول بحلول وسطى أو إدراك معنى الوسطية في الحياة بشكل عام. وفيما يلي سوف نتحدث بايجاز عن بعض القضايا التي تسهم في تخلف الثقافة العربية وتكشف أوجه تخلفها.

المال: المال هو أحد أهم مصادر القوة التي استحوذ عليها الإنسان في الماضي والحاضر بسبب ما للمال من تأثير على مواقف البشر وسلوكياتهم، وقابليته للتوظيف في أمور شتى. إذ في الوقت الذي يتم فيه توظيف المال أحياناً في دفع المجتمعات نحو تحقيق التقدم، فإنه يتم توظيفه أحياناً أخرى في نشاطات ينتج عنها تكريس التخلف. وعلى سبيل المثال، قامت إسبانيا في القرن السادس عشر بابادة معظم سكان أمريكا الجنوبية ونهب ثروات تلك القارة من الذهب والفضة. لكن سيطرة الكنيسة الكاثوليكية وتعاليمها المتزمتة على إسبانيا قاد إلى توظيف الثروات المسروقة لتكريس تخلف إسبانيا؛ إذ بقيت إسبانيا متخلفة وفقيرة حتى جاءت دول السوق الأوروبية لانتشالها من البؤس والفقر والدكتاتورية في النصف الثاني من القرن العشرين. وفي المقابل أُستخدم المال في أمريكا الشمالية والعديد من دول أوروبا الغربية في تحقيق التقدم في مجالات حيوية مثل التعليم والبحوث العلمية والجامعات، ودعم المستشفيات والنشاطات الثقافية والأدبية والفنية.

ولما كانت أموال النفط العربي قد تكدست في أيدي دول وفئات اجتماعية يغلب عليها طابع التزمت الديني والتخلف العلمي والثقافي، فإن المال أُستخدم في الترويج لوجهة نظر دينية سلفية أسهمت في تكريس تخلف العرب، بدلاً من أن تُسهم في تحريرهم من فكر الإقصاء والتكفير. لذلك اتجهت معظم تبرعات أثرياء النفط إلى دعم مدارس تحفيظ القرآن وتشييد الجوامع ونشر الفكر السلفي الذي يعمل على كبت الحريات عامة، بما في ذلك الحرية الاجتماعية، وحرية الفكر والرأي، ومصادرة حرية المرأة وحرمانها من حقوقها. ومع تطور تكنولوجيا الاتصالات عبر الأقمار الصناعية، فإن أموال النفط تمكنت من الهيمنة على العملية الإعلامية وتوظيفها لتكريس التوجهات الدينية السلفية، ونشر الأفكار الظلامية والخرافات التي تتنافى مع العقل والمنطق والعلم.

من ناحية ثانية، جاء وصول أموال النفط إلى العالم العربي في الوقت الذي كانت فيه الدول المصدرة للنفط تعاني ارتفاع نسب البطالة والأمية، ما فرض على حكومات تلك الدول أن تتحرك في اتجاهين في آن واحد: أولاً، خلق ملايين الوظائف للعاطلين عن العمل والأميين في مجالات حكومية وخدمية، مع عدم تطبيق نظم عمل صارمة تجبر العامل والموظف على القيام بواجباته على أكمل وجه. وثانياً، استيراد ملايين العمال والموظفين من بلاد عربية وأجنبية - أطباء ومهندسين ومدرسين، ومدراء شركات تجارية ومصانع وبنوك ومصافي بترول وشركات تأمين ومقاولات، وعمال يقومون بتنظيف الشوارع والخدمة في البيوت والمكاتب الحكومية والخاصة. ولما كان لكل عامل وموظف عائلة وأقارب في دولته التي هاجر منها، وأنه يقوم بدعمهم مالياً، فإن عشرات الملايين من العرب اكتشفوا فجأة أن بإمكانهم شراء ما يروق لهم من بضائع من دون المشاركة في عمليات إنتاجية. إلى جانب ذلك، قامت الدول العربية الثرية بتقديم معونات مالية وقروض سخية للدول الفقيرة بهدف مساعدتها على التنمية والنمو، إلا أن معظم تلك الأموال تمت سرقتها من قبل النخب السياسية والاقتصادية المهيمنة على البلاد الفقيرة؛ وهذا جعل المال يُسهم في نشر الفساد وتوسعة الفجوة بين الفقراء والأثرياء. ومع قدوم عصر العولمة الاقتصادية والثقافية، تحول العرب بسرعة إلى مجتمع غريب لا يدرك مغزى العلاقة بين الاستهلاك والإنتاج؛ إذ في الوقت الذي لم يكن بإمكان الأوروبي شراء ما يروق له من بضائع من دون أن يعمل ويكسب المال الذي يحتاجه لدفع ثمن ما يشتريه، فإنه أصبح بإمكان عشرات الملايين من العرب شراء ما يروق لهم من دون أن يعملوا يوماً في حياتهم، لأن ذويهم العاملين في دول النفط والمهاجرين في أوروبا وأمريكا وكندا وغيرها من دول يتكفلون بإمدادهم بما يحتاجون إليه من أموال لإشباع رغباتهم وشهواتهم.

التقاليد التربوية: إن القاء نظرة سريعة على موقع الفرد العربي من المجتمع، ومحاولة عابرة لتتبع مسيرة حياته اليومية تظهر أن العربي لا يتمتع، ولو بجزء قليل من الحقوق التي يتمتع بها نظيره في مجتمع غربي. ويعود سبب ذلك إلى طبيعة الثقافة الشعبية السائدة في المجتمعات العربية عامة، وطريقة تربية الفرد في العائلة التقليدية خاصة. إذ في الوقت الذي يولد فيه الطفل وينمو في أحضان عائلة حنونة في معظم الأحيان، فإن حنان العائلة يحرم الطفل والشاب والمرأة عادة من معظم حقوقهم، وفي مقدمتها فرصة التحرر من الوصاية العائلية التي لا تقل قمعاً وكبتاً في معظم الحالات عن الوصاية الاستعمارية. وفي الواقع، قد يعيش الفرد العربي حياته كاملة وهو يفكر في كيفية أداء الواجبات الاجتماعية الملقاة على عاتقه، مثل إطاعة أوامر الأب والأم، واحترام من هو أكبر منه سناً وأكثر ثراء وسلطة، ومن الخوف من الأستاذ في المدرسة والشرطي في الشارع، ومن الدولة ورجال مخابراتها، ناهيك عن الخوف من رجال الدين وفتاواهم القمعية. وفي غياب الحرية تزدهر عادة الكذب وتستحوذ مع الأيام على شرعية ثقافية غير منقوصة.

إن للكذب أسباباً كثيرة ودوافع عديدة لا يمكن حصرها، لكن السبب الذي تنبثق عنه كافة دوافع الكذب ومسبباته هو انعدام الحرية الشخصية. فحين يشعر إنسان بأنه لا يملك ما يكفي من الحرية كي يقول ما يريد ويفعل ما يريد أمام الناس من دون خوف أو حرج، يصبح لزاماً عليه أن يتنازل عما يريد أن يقول ويفعل، أو أن يلجأ إلى الكذب لإخفاء مشاعره وإنكار تصرفاته غير التقليدية. ولما كان انعدام الحرية الفردية هو الحالة الشائعة في كافة المجتمعات العربية، فإن الكذب أصبح صفة تلازم كل فرد تقريباً، خاصة الأبناء في مواجهة الآباء والأمهات، وطلبة المدارس والجامعات في مواجهة الأساتذة، والشعب في مواجهة السلطة، وجيل الشباب في مواجهة جيل الشيوخ، والليبراليين في مواجهة العقائديين، والعكس صحيح.

إهمال الوقت: يشير التاريخ إلى أن الشعوب التي تعاملت مع الوقت باعتباره شيئاً ثميناً كانت هي الأقدر على استثماره، والأكثر انجازاً وتقدماً من الناحيتين المادية وغير المادية. فالشعوب التي اتجهت إلى استخدام الوقت المُتاح بكفاءة، وقامت بالاستفادة منه بقدر الإمكان استطاعت أن تنتج المزيد من السلع والخدمات والعلوم والفنون والآداب، مما جعل حياة الناس فيها أكثر متعة وأمناً؛ وهذا عزز قدراتهم على مواجهة التحديات الآنية والمستقبلية. أما الشعوب التي اتجهت إلى إهمال الوقت وعدم الاكتراث به، فإن الوقت أهملها كذلك، ما جعلها تتخلف عن الزمن وتعاني التخلف بأبعاده الثقافية والاقتصادية والسياسية والعلمية والبيئية؛ وهذا تسبب في إضعاف قدراتها على التمتع بحياتها وتحقيق التقدم الذي تتمناه. وفي ضوء محدودية الإمكانات العلمية والتكنولوجية التي تملكها الشعوب الأقل نمواً وعلماً وثقافة، فإن تلك الشعوب فقدت القدرة والإرادة الواعية على مواجهة التحديات، ما دفع غالبيتها إلى الاستكانة والقبول بالتخلف والتبعية للغير من الدول. لذلك فشلت كافة الشعوب التي أهملت الوقت في الحفاظ على موقعها بين شعوب العالم، ولم يعد بإمكانها أن تنظر إلى المستقبل بأمل وتفاؤل.

وعلى الرغم من أن غالبية شعوب العالم أصبحت اليوم قادرة على وعي أهمية الوقت، فإن معظم المجتمعات الإنسانية، وعبر كافة مراحل التاريخ التي سبقت عصر الصناعة، لم تحترم الوقت بالقدر المطلوب، ولم تتعامل معه بإيجابية. إذ اتجهت كافة الشعوب القديمة إلى اعتبار الوقت عبئاً على المجتمع، يستوجب التخلص منه وقتله إن أمكن، وذلك بدلاً من التعامل معه كثروة مجتمعية تستوجب الاستثمار، واستغلال الفرص السانحة ضمن الوقت المتاح. نتيجة لذلك تمتعت شعوب الأزمنة القديمة بالسعادة والمتعة إثناء قيامها بهدر الوقت وإضاعته، لكنها دفعت ثمناً غالياً فيما نالها من تخلف وفقر وضعف وتبعية فيما بعد. وعلى سبيل المثال، تبذل الشعوب العربية من مالها وصحتها وجهدها على نشاطات قتل الوقت أكثر مما تنفقه على كافة النشاطات العلمية والفكرية والثقافية. لكن الوقت، وأن ضاع بالنسبة لبعض الناس، فإنه لا يتهاون مع من يقوم بإهماله، أو يُقلل من شأنه، أو يشكك في قدرته على التأثير في تشكيل الحاضر وصنع المستقبل، فالوقت يهمل من يهمله، ويعاقب من يحاول الاعتداء عليه وهدر دمه، كما فعل وما يزال يفعل بأبناء الأمة العربية.

لقد تحول الوقت عبر الزمن، وذلك بفعل التطور الحضاري والوعي الثقافي والتقدم العلمي من كم مهمل إلى عبء مجتمعي، ومن عبء إلى ثروة شخصية ومؤسسية، ومن ثروة إلى أكثر الثروات ندرة وقيمة. وهذا ما جعل طرق استخدام الوقت وكيفية استغلاله تغدو من أهم العوامل المؤثرة في تنمية قدرات الفرد، ومدى تراكم المعارف والثروات في المجتمع، وتحديد موقع كل شعب من غيره من الشعوب والتاريخ. لهذا أصبحت الفجوات العلمية والاقتصادية والثقافية والتعليمية والصحية التي تفصل مختلف الأمم عن بعضها بعضا تعكس تباين نظرة الشعوب إلى الوقت والعمل، وتفاوت قدراتها على استثمار الوقت والتجاوب الفعال مع استحقاقاته.

إن اخفاق العرب في دخول عصر الصناعة، جعل الثقافة العربية السائدة ثقافة زراعية مع بعض الترسبات القبلية والتشوهات الاستهلاكية والتطلعات المادية. ولهذا نلاحظ أن نظرة العرب إلى الوقت تتصف عموماً بالسلبية، وذلك على الرغم من تقلص المجتمع القبلي كثيرا، وتراجع نسب العاملين في قطاع الزراعة، وتزايد نسب العاملين في الخدمات من سكان المدن. لكن هجرة أهل البادية والفلاحين إلى المدن تسبب في "ترييف" بعض المدن العربية، كما هو الحال في مصر والمغرب ولبنان، و"تعشير" بعض المدن كما هو الحال في دول الخليج العربية والأردن. فسكان المدن العربية عامة يعيشون اليوم ثقافة القرية أو العشيرة، أو ثقافة هجينة تختلط فيها ثقافة المدينة مع ثقافتي الريف والبادية. ويعود السبب في ذلك أساساً إلى اتجاهِ الدولة إلى إهمال الأرياف والبوادي، وتركيز الخدمات التعليمية والصحية والوظائف الحكومية في المدينة. إذ تسببت هذه السياسة في نزوح القرويين والبدو بأعداد كبيرة إلى مدن لم تكن مستعدة لاستقبالهم، وليس باستطاعتها استيعابهم وإعادة تشكيل ثقافاتهم. ونتيجة لهذه التطورات، بقي المجتمع العربي أميناً على ثقافته القروية وتقاليده العشائرية، ومواظباً على التفنن في إضاعة الوقت وهدر دمه.

ويشير واقع الحال إلى أن الفرد العربي، بغض النظر عن ثقافتة ومستوى تعليمه والطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها والمهنة التي يزاولها، يبدو عاجزاً عن وعي أهمية الوقت والعلم والتخطيط، وبالتالي التفكير في المستقبل وكيفية صنعه. من ناحية ثانية، تقوم الالتزامات الاجتماعية التقليدية والأعراف العشائرية والقيم التراثية بحرمان الإنسان العربي من الالتزام بموعد مع الزمن والتاريخ، بل لا تسمح له أحياناً بترتيب برنامج يوم واحد والالتزام به بدقة. كما أن هناك بعض الأفكار الدينية والكثير من العادات والخرافات المتوارثة التي تشجع الإنسان على الكسل والتواكل، فيما تعزو النجاح والفشل والمصائب والكوارث إلى الحظ والقضاء والقدر، وهذه تقاليد وقناعات تُعفي الإنسان العربي عامة والمؤمن خاصة من مشقة التفكير في المستقبل، كما تعفيه من تحمل مسؤولية ما قد يرتكبه من أخطاء وحماقات بسبب الجهل وضعف الوعي.

إن غياب الثقة بسبب شيوع الكذب يُضعف قدرات المجتمعات العربية عامة على بناء رأس مال اجتماعي بإمكانه قيادتها نحو التنمية والنهوض. فالكذب والنفاق والتملق والخداع والتحايل على القانون، والحسد والغيرة والجشع والاستهتار والفساد، هي أمور لا تُصلح ثقافة ولا تبني إنسانا أو وطناً، بل تهدم ما هو قائم من قيم ومؤسسات فاعلة، وتُفسد ما يكون قد تبقى من أخلاق حميدة، وتسهم في تقويض أسس العدل والحرية والنزاهة في كل مجتمع تتفشى فيه. وفي ظل هذه الأجواء القاتمة، ترتفع بعض الأصوات المنادية بالعودة إلى التراث والماضي بدلاً عن التعلم من تجارب الشعوب التي تمكنت من النهوض وتحقيق التقدم. وإذا كانت العودة إلى الماضي وحكمته لا يمكن تحقيقها إلا بإعادة خلق ظروف تجربة الماضي التي لا يمكن خلقها، فإن كل من يطالب بالعودة إلى الماضي يسير في حقيقة الأمر نحو لحظة تجاوزها الزمن منذ أمد بعيد. وليس على من يشك في هذا الرأي إلا أن ينظر إلى حال المجتمعات القبلية التي تعيش اليوم في أفريقيا، وما تعانيه من تخلف وفقر وبؤس. فالزمن لا يعود إلى الوراء أبداً، والتاريخ لا يعيد تكرار نفسه، ومن يتخلف عن قطار الزمن يحكم على نفسه بالفقر، وتفوته فرصة السفر على أجنحة الحرية والكرامة والتقدم.

بروفسور محمد عبد العزيز ربيع

www.yazour.com