على أبواب الجنة ... مشاجرة قبل الدخول

 
ما يحدث اليوم على الساحة العربية هو أمر مُريب وخطير، فيه خلط الشبهات بالحدث والشك باليقين، وكأن المسلمين في رحلة قصيرة جداً من هذه الحياة، حيث اقترب الجميع من جنة الفردوس، وإذ هي تقع على باب واحد قصير وضيق جداً، ومكتوب أعلاه "لا يدخلها إلا المجاهدون".
 
فما كان إلا التزاحم دون الرحمة بالأطفال والنساء والشيوخ، والغلبة للأقوى.. وكأن المشهد الأخير اقتصر على مجموعة من الرجال الأقوياء، وإذ مشاجرة عنيفة قامت بينهم، حيث سفكت الدماء أثناء هرولتهم متعطشين لدخول الجنة.
 
فهذا ما تصوره الملاحدة في كتبهم ومقالاتهم على مر العقود الماضية، ولكن مع الأسف الشديد أصبح هذا التصور هو الواقع لما هو عليه مسلمو اليوم!!!.
 
والسؤال الجدير بالإجابة عليه دون خجل أو تجاوز الأطر الشرعية.. من الذي أغلق جميع أبواب الجنة، وأوهم شباب المسلمين بأن للجنة باب واحد فقط لا يدخله إلا المجاهدون على أجساد الأبرياء؟!.
........................................................
 
أكثر من (200) باب لتنظيم الدخول والخروج من الحرم المكي، ومع ذلك قد يدخل رجل من باب ليقف أمام الكعبة المشرفة ليستشعر مشقة حمل الأحجار والبناء، بينما قد تدخل إمرأة من باب آخر لتقف أمام جبلي الصفا والمروة لتستشعر مشقة الأم في البحث عن الماء لرضيعها.
 
وقد جعل الله سبحانه وتعالى للجنة عدة أبواب، ولكل باب إسم لا يدخله إلا أصحاب صفة هذا الإسم، فمن كان من المُصلين دخل من باب الصلاة، ومن جاهد في سبيله دخل من باب الجهاد، وكذلك باب الصدقة للمُتصدقين والريان للصائمين، والأيمن والكاظمين الغيظ وباب التوبة.
 
والشاهد هنا مع فرق التشبيه بين أبواب الحرم المكي وإستشعار الداخلين منها، وأبواب الجنة وصفات الفائزين بها، هو أن الغاية من التنوع في أبواب الحرم المكي تنظيم الدخول بما يتوافق مع قدرات الداخلين ومشاعرهم، بينما التنوع في أبواب الجنة من أجل أن يقصد كل مسلم الباب الذي يرى فيه الطريق الأنسب للقرب من ربه وخالقه.
 
لا يُمكن حصر الأسباب الحقيقية أو الكاملة للمشهد الدموي الحاصل اليوم على الساحة العربية بفترة زمنية مُعينة لمكان معين، بل هو نتاج تراكمي لمجموعة من المُعطيات على مدار عقدين أو ثلاثة ماضية، وإن اختلفت أو تعددت وتنوعت من باحث إلى آخر.
 
وقبل البدء... دعوتي للقارئ بأن يتجرد أثناء هذه القراءة من ثلاثة محاور، وهي علماء الإسلام والقيادات العربية والمؤامرات الخارجية، على الرغم أن هذه المحاور هي أسس أكثر الباحثين والمتحدثين على الشاشات الإعلامية بإعتبار أنها وراء المشهد الدموي بين العرب والمسلمين.
 
وما بعد هذا التجرد ولو للحظات قليلة، لنستذكر معاً الحياة الأسرية العربية والتي قامت على سطحية التلقين الفكري القريب من مستوى التفكير العام، ومن كان في ذلك الوقت يتحدث عن الجهاد في سبيل الله على مستوى الوطن العربي، كانوا ينتمون لثلاثة مستويات على شكل وظائف لا يُمكن الإستغناء عنها إجتماعياً، ولها مُسميات إجتماعية جبلت الشعوب العربية على تقديرها والإنصات لها، وهي كالتالي:
 
أولاً... القطاع التعليمي؛ والقول هنا يدور حول مدرس التربية الإسلامية، وقد يلحقه مدرس اللغة العربية، حيث كانت الأغلبية غير مؤهلة لتلقين الطلاب العرب التعليم الشرعي والتاريخ الإسلامي للكثير من الأسباب.
 
ثانياً... القطاع الفني؛ والقول هنا يدور حول فنان الشاشة السينمائية، وقد يلحقه بعض الروائيين العرب، وربما كان الحديث عن الجهاد في سبيل الله والمعارك التي دارت عبر التاريخ هي الأكثر إنتشاراً في حقبة الثمانينيات والتسيعينيات على ألسنة الروائيين ومسلسلات الفنانين.
 
وإن اختلفت الطرق وتعددت الوسائل في نقل صورة الجهاد الإسلامي للجمهور العربي، فالمدرس مع طلابه والفنان مع المجتمع بكل فئاته، ولكن النتاج يحمل صورة واحدة تم غرسها في العقول العربية، بأن الكرامة العربية والعزة الجسدية لن تكون إلا بعودة الخلافة الإسلامية، والتي تم وضعها في قالب ضيق جداً يحمل صورة واحدة، وهي أن دولة الخلافة ليست إلا "أن تركب الخيل وتحمل السيف لتغنم صرة من الذهب ولتنعم بالجارية الحسناء".
 
قد لا يروق للبعض الجمع بين المعلم والفنان، وخاصة في الحديث عن التلقين الديني وفقه الجهاد، ولكن هذه الحقيقة التي استشعرها بذاكرتي، والتي تخلو تماماً من توجيه الإتهامات أو الإساءة بالتخوين لكل من المعلم والفنان، فالأمر لا يتجاوز عندي إلا توضيح بعض الأخطاء المنهجية التي قد تقودنا إلى توضيح الأسباب الباطنية لما نحن عليه اليوم، وهي على جانبين:
 
الجانب الأول... لم يُخبرنا معلم التربية الإسلامية بأن الدولة التي نعيش بها هي دولة إسلامية بصريح العبارة، وأن جيشها النظامي الذي يدافع عن أعراض المواطنين ومقدرات الوطن هو صورة جهادية منصوص عليها في الشريعة الإسلامية.
 
الجانب الثاني... لم ينقل لنا فنان الشاشة السينمائية من التاريخ الإسلامي حوار العلماء والحكماء مع الشعوب العربية في التعامل مع الفتن السياسية والمحن الإجتماعية، ودورهم في ترسيخ الأمن القومي للدولة بعيداً عن الأخطاء الصادرة من السلطة السياسية للدولة.
 
وبعد أن تم فصل التاريخ الإسلامي بحواجز قاطعة عن الواقع العربي، وكأننا في عصر جاهلية على غير ملة التوحيد، وفصل الدين الإسلامي عن المواطنة والهوية العربية، وكأن الدين الإسلامي خرج من المنطقة العربية مع خروج الأتراك، حيث أصبحنا نحن جميعاً نعيش في أروقة الفراغ الذي يبحث عن الإجابة على السؤال  الناتج عن هذه التراكمية، وهو "من يقودنا لقتال الكفار حتى نعود إلى أمجاد التاريخ الإسلامي"؟!.
 
والسؤال المطروح هنا لم يكن من نتاج مؤامرة خارجية، أو لتخاذل الحكام العرب بالتعاون مع علماء الإسلام، بل هو نتاج الحراك العلمي والأدبي في المنطقة العربية الذي احتمل الصواب والخطأ كبقية العلوم، حيث علينا أن ننظر بعين الإعتبار للجهل والتخلف الذي تركه الأتراك في المنطقة العربية قبل مغادرتهم لها.
 
                        ثالثاً... القطاع الحزبي؛ والقول هنا يدور حول الأحزاب الإسلامية، وقد يلحقه بعض اليساريين، حيث أخذت هذه الجماعات تجول في أروقة الفراغ الفكري وتعمل على تفعيل الصورة المغلوطة في عقل المواطن العربي عن تاريخ الدولة الإسلامية والجهاد من أجل عودتها، حيث أخذت هذه التيارات الصدارة في البحث عن الوسائل المناسبة للإجابة على السؤال أعلاه عبر إستخدام بعض النصوص الإسلامية، فكم من دعوات صدرت من بعض كبار المثقفين والحزبيين بأن جاهلية قريش فيها عزة وكرامة للأمة أكثر مما نحن عليه الآن، وأنه لا قيمة للهوية العربية دون عودتنا للماضي وتاريخه.
 
وخلاصة القول فيما ذُكر... أن مدرس التربية الإسلامية هو أول من قرأ علينا التاريخ الإسلامي بعد حصره بالخيل والسيف وصرة الذهب والجارية، كما أن فنان الشاشة السينمائية هو الذي أوحى لنا بأن عودة الأمجاد التاريخية تكون بعد قتال الكفار، ثم هرولت الأحزاب الإسلامية لإشباع رغباتنا العاطفية، فكانت الإجابة على السؤال الناشئ تراكمياً من خلال مسيرة الإسلاميين على مر العقود الماضية، وهي "أن جميع الدول العربية تعيش حياة أسوأ من عصر الجاهلية، وأنه لا خلاص من هذه الحياة إلا بعودة الإسلام، وقبل التوجه لقتال الكفار علينا أن نتخلص من جميع الحكام العرب وحكوماتهم وجيوشهم، عبر الإستعانة بالإسلام الإيراني والتركي للعودة إلى أمجاد التاريخ الإسلامي".
 
وللإجابة على سؤال المقال الرئيسي، وهو من أغلق أبواب الجنة المتعددة، والتي جُعل منها للمصلين والمتصدقين والصائمين وأهل الشفاعة والكاظمين الغيظ والتائبين، بل وألزم المسلمين الدخول من باب الجهاد فقط، وعلى الرغم من إختلافنا مع المعلم والفنان في منهجية فهم الجهاد وعرضه كتاريخ،إلا أنه لم يدعنا معلم التربية الإسلامية للتوقف عن الصلاة والصدقة والصوم من أجل الجهاد، ولم نشاهد مقطعاً تمثيلياً يدعو فيه الفنان العربي لتقديم التاريخ والجهاد على حساب العبادات، وإختلافنا معهم ينحصر فقط في الفهم والعرض.
 
ومرة أخرى أدعو القارئ للتجرد من أقوال الإعلاميين ومقالات الباحثين أثناء هذه القراءة، وذلك ليستذكر بعضاً من الحوار الأسري والإجتماعي البسيط، على مستوى الأب والأخ والجار والصديق فيما يتعلق بالحدث السياسي اليومي، حيث لم يخلُ من عبارات التشكيك والتخوين للقيادات العربية، والإستهزاء والتقليل من شأن العلماء والحكماء، بل وصل الأمر بالإعتقاد بخيبة الأمة العربية وإتهامها بأسوأ ما يقال بأن عصر الجاهلية العربية أفضل من حالنا اليوم.
 
ولعل القارئ أخذ يتوجه بنفسه ليتذكر دعوة حزب التحرير الإسلامي المُنتشرة في بلاد الشام، ودعوة الإخوان المسلمين المُنطلقة من أرض النيل، وكيف تناولت كلتا الدعوتين أبواب الجنة.
 
فحزب التحرير الإسلامي لم يتردد في دعوته بصراحة غير مسبوقة، حيث قدّم باب الجهاد على بقية أبواب الجنة، بل اعتبر بقية الأبواب التي تشمل العبادات الإسلامية ليست إلا ملهاة الحكام للشعوب لصرف أنظارهم عن العبادة الحقيقية وهي الجهاد في سبيل الله، بل كان يعتقد بعض من ينتسب لهم أن العبادات تتوفر شروط تفعيلها بعد إسقاط الحكام العرب ومبايعة خليفة المسلمين.
 
وليس ببعيد عن الإخوان المسلمين في هذا الجانب، فهم لم يدعو إلى إغلاق أبواب الجنة، أو تقديم باب الجهاد على بقية أبواب الجنة، بل يحثون عليها، ولكن ما يجب الإنتباه إليه أن أبواب الجنة جميعها محتكرة لمن انتسب لمنهجهم وشارك في تنفيذ برامجهم السياسية، فكم من عالم رباني شتموه ووصفوه بأقذر الكلمات والألفاظ فقط لمجرد إختلافه في الرأي السياسي معهم.
 
وفي الختام نقول... أنه على مر العقود الماضية ومنذ نهاية الدولة التركية وبروز القومية العربية وأنظمتها السياسية، والشعوب العربية تعيش في تخبط وتشتت فكري قائم على الحيرة من الأمر، ما بين الإندماج في الهوية العربية وفق مُتطلبات السنن الكونية المُتجددة،  وما بين العمل من أجل العودة إلى الماضي لإعتقاد عندهم أن فيه الخلاص.
 
فقد كنا أشبه ما نكون في مُشاجرة على مستوى الأفكار، تشاجرت العقول مع بعضها البعض من حيث لم نكن نعلم أننا نُمهد الطريق لأولادنا ليكملوا هذه المشاجرة، والتي انتقلت لمرحلة التنافر الشديد بين عقل العربي ودينه وأسرته والمجتمع الذي يعيش فيه.
 
ومن المشاجرة الفكرية إلى المشاجرة الجسدية، والتي سُفكت فيها الدماء العربية والبريئة من ذنب ارتكبه العقل العربي في تصوره للتاريخ وإصراره على العيش بين صفحاته التي اندثرت ولن تعود إلى الحياة.
 
وما يحدث اليوم هو ما تصوره الملاحدة في كتبهم ومقالاتهم على مر العقود الماضية، ولكن مع الأسف الشديد أصبح هذا التصور هو الواقع لما هو عليه مسلمو اليوم، حيث أغلقت الأحزاب الإسلامية جميع أبواب الجنة بل واحتكرت دخول الجنة على مُنتسبيها، فالقاتل يقتل نصرة لحزبه والمقتول يدافع عن قادة حزبه، وعلى الرغم من خطأ المعلم والفنان، إلا أنه لا يُعقل فصل مواد الثقافة الوطنية والإجتماعية عن مادة التربية الإسلامية في المدارس العربية، فمدرس يتباكى أمام طلابه على أمجاد الماضي، ثم يأتي آخر يُبشرهم بالمستقبل المشرق.
 
وما أود تأكيده في الختام بأن المقال ليس بقائم على العداء بقدر ما هو قراءة مُبسطة لما يحدث على الساحة العربية من تدمير شامل وسفك للدماء، كما وليس هناك تبرئة للتدخلات الخارجية والسياسات المُتبعة في المنطقة العربية، ولكن ما حرصت عليه في هذا المقال هو نقل ما كان يحدث في أروقة الحديث بين أفراد الأسرة العربية، والبحث في مؤثرات ما زالت فعالة على عقول الشباب العربي لم يأخذ البحث العلمي والإعلامي إهتمامه بها.