تضمن البرنامج الوزاري الذي أعلنه رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم نية حكومته تطبيق سياسة تصفير المشاكل كهدف تكتيكي مع دول الجوار الإقليمي روسيا، وإسرائيل، والعراق، وسوريا - من دون الأسد - حين إعلان وزارته الأولى إثر انتخابه رئيسًا لحزب العدالة والتنمية بمؤتمر الحزب بدورته العادية خلفًا للرئيس البروفيسور أحمد داوود أوغلو، وذلك لتحقيق جو مناسب من السلام والاستقرار لتنفيذ مشاريع استراتيجية سياسية واقتصادية تنفيذًا للاستراتيجية التي قامت عليها الجمهورية التركية الأولى «سلام في الوطن، وسلم في العالم، وتحقيق أعلى مستوى من تذويب المشاكل الثنائية والإقليمية، وحتى الدولية» التي تشكل تركيا طرفا لها بتنفيذ استراتيجية تعتمد على الحوار أولا والأخذ بالاعتبار ركائز البراجماتية الأخلاقية التي توازن بين مصالح تركيا الدولة، والجوار الإقليمي المستهدفة صداقته والعمل على بلوغ المشاكل أقل مستوى ممكن.
ولإدراك هذا التوازن الهادئ في مستوى العلاقات الدولية بالتزام هذه الاستراتيجية الثابتة والعمل على تنفيذ تكتيك مرحلي، للوصول إلى الأهداف المحددة بالاستراتيجية الطويلة الامد بحسب خطة جزئية لتحقيق الأهداف الثابتة المستقبلية وينطبق ذلك تمامًا على الخطط العسكرية، ففي التكتيك المرحلي تكسب معركة وبالاستراتيجية الثابتة تكسب الحرب.
يعتمد تنامي الدور التركي في الشرق الأوسط على العمق الاستراتيجي بكونها تملك موقعا جغرافيًّا وتاريخيا مميزا يؤهلانها للتحرك الإيجابي المتوازن وخصوصًا لمحيط اهتمامها الأقرب بالعالم الإسلامي، لذلك يتطلب منها اتباع استراتيجية تعتمد نهج السلام والمنافع المتبادلة والخروج من النظرة المنتظرة للأحداث، بل التفاعل العملي لجعل تركيا الدولة الإسلامية التي تهتم بقضايا الأمة الإسلامية والتضامن والتعاضد مع شقيقاتها الدول الإسلامية المحورية وبمقدمتها بلادنا المملكة العربية السعودية ومملكة البحرين ودولة قطر، وكافة دول الخليج العربية، وكلنا أمل بأن تركيا ستتجه ببوصلة نظرية تصفير المشاكل نحو الشقيقة جمهورية مصر العربية وذلك لصالح الأمتين العربية والتركية...
وقد اتبع حزب العدالة والتنمية الحاكم منذ نجاحه في الانتخابات البرلمانية عام 2002م تنفيذ استراتيجية منفتحة مع العالم العربي وأكثر تميزا مع دول مجلس التعاون وذلك بالوصول إلى مرحلة إبرام اتفاقية التعاون الاستراتيجية بينهما والمنتظر بلوغها مرحلة التنفيذ الفعلي بين الجانبين.
ولا بد من إدراك الدور المحوري الذي تلعبه تركيا في منطقتنا الإقليمية وأتمنى إدراك القاعدة الأساسية في العلاقات الدولية والتي تعتمد على أسس ثابتة من أهمها الاحترام والثقة (respect +trust) وعدم تقييم تلك العلاقات ثنائية كانت أم جماعية بين الدول على أساس الآيديولوجيات السياسية المتبعة في داخل تلك الدول، فهذا قرار لإرادة الشعوب في الاختيار المناسب لتسلم السلطة بأكثرية الأصوات الشعبية، وأعيدكم إلى الذاكرة في العلاقات المصرية السوفيتية ومستواها العالي بعهد عبدالناصر وخروتشوف وبنفس اليوم الذي وطئت قدما خروتشوف أرض مصر لافتتاح المرحلة الأولى من السد العالي أدخل النظام المصري كل الشيوعيين السجون لظروف اقتضتها المصلحة الأمنية المصرية العليا، هذا مثال حي بين التكتيك السياسي المؤقت والاستراتيجية الثابتة للتعاون المستمر بين البلدين...
وقد انعكس التعاون الاستراتيجي العربي التركي في إعطاء الدولة التركية المزيد من الزخم التفاوضي لهدف الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وأبقت الدبلوماسية التركية الباب مفتوحًا معها رغمًا على المطالب العديدة والتي يصل بعضها إلى درجة التعجيز في تنفيذها وتضاعفت المطالب إثر الانقلاب الفاشل في الخامس عشر من يوليو الماضي (2016م) حين حدث التدخل في الشأن التركي الداخلي من العديد الدول الأوروبية، إضافة إلى برلمانهم الأوروبي باتهام الحكومة التركية بخرق حقوق الإنسان والابتعاد عن السبل الديمقراطية والتلويح التركي بإعادة حكم الإعدام كجزاء قضائي.
إن الدولة التركية تتبع سياسة النفس الطويل في مفاوضاتها مع أمانة الاتحاد الأوروبي، وأخشى أن الباب الأوروبي المسيحي لا يسمح للضيف المسلم بالدخول لدائرة نفوذ الفاتيكان.
وجاء التحرك الأخير بالزيارة التاريخية للرئيس رجب طيب أردوغان لروسيا مثالا ذكيًّا وشجاعا لاستخدام التكتيك السياسي والاقتصادي لخدمة الاستراتيجية الثابتة للدولة التركية وشكلت خطوة متقدمة لتنشيط العلاقات المجمدة بين تركيا وروسيا الاتحادية وكذلك أعيدت معها حالة الصداقة والتوافق بين شخصيتين مهمتين في محيط العلاقات الدولية ومعها ايضا تحركت مشاريع استثمارية روسية مهمة في تركيا تقدر بثمانية وثلاثين مليار دولار تتمثل في بناء المفاعل النووي التركي وخط السيل الكبير لنقل الغاز الروسي لأوروبا عن طريق الأراضي التركية، والكثير من مشاريع البناء والإسكان التي تنفذها شركات تركية في روسيا، علاوة على تدفق البضائع والمنتجات الزراعية من تركيا عبر حدود روسيا..
إن الكثير من الإعلاميين ومحللي السياسة العرب اعتقدوا أن هذا التحرك المرحلي التركي في المحيط الإقليمي بدأ من الاتفاق التركي الإسرائيلي وعودة العلاقات التركية الروسية إلى حالة التوازن الطبيعية وكذلك الرغبة في تصفير المشاكل مع الجوار العربي في العراق وسوريا - ما بعد الأسد - ومحاولة طرح الحل السلمي لقضية الشعب السوري وإنهاء معاناته تحولا أساسيا في الاستراتيجية الخارجية لتركيا ما بعد الانقلاب الفاشل وتداعياته، ان ذلك التصور بعيد عن الحقيقة الثابتة، فتركيا الدولة تعطي الأولوية المميزة للعلاقات العربية التركية وتحرص على تقويتها وتنشيطها دائما وتشكل الدائرة الأوسع في استراتيجيتها الخارجية..
وتأتي الزيارة المباركة الأخيرة لملك البحرين جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة نصره الله لتركيا والاستقبال المميز لجلالته ومشاعر الود والأخوة التي أبداها الرئيس أردوغان لأخيه جلالة الملك حمد لتجعل كل مراقب مهتم بالعلاقات الخليجية التركية يستشعر بأن دول الخليج العربي متجهة نحو تركيا لبلوغ مرحلة الحليف الاستراتيجي عسكريًا وسياسيًا واقتصاديا من أجل خير الأمة العربية والتركية وخدمة الأمن والسلام الإقليمي والدولي. 

* عضو مجلس أمناء منتدى الفكر العربي. 
عضو الهيئة التأسيسية للحوار التركي العربي
عضو هيئة الصحفيين السعوديين
abdulellahalsadoun@gmail.com